الأربعاء، أكتوبر ٢٤، ٢٠٠٧

عيون تدمع رماد

لا أدري إن كان يجب علي أن أكون ممتناً لأي أحد فقط كونه السبب في وجودي في هذه الحياة. هل من المطلوب أن أقدس التراب الذي يمشي عليه فقط لأنه أبي؟ هذا الرجل الذي لم أحس يوماً أنه كان قريباً مني بل على العكس تماماً لم أره إلا بعيداً ويبتعد تدريجياً كما المركب الذي لم يُحكم ربطه بالمرسى فبدأ الموج الخفيف يحمله رويداً رويداً تكاد لا تحس بإبتعاده حتى تكتشف أنه وصل لنقطة اللاعودة وعندئذ تفكر في جدوى السباحة خلفه أم تقول لنفسك بأن الحياة يجب أن تمضي رغم كل شئ وتترك قاربك يسبح لعله يكون نجاة أحدهم من غرق. عموماً أشك أن يكون هذا الرجل والمكنى بأبي أن يكون نجوى أحد






ولدت في بيت صغير لأجد نفسي أكبر أخوتي الثلاثة. ولدان آخران وبنت واحدة. الولدان أحدهم جاء قبل البنت والآخر بعدها. أشقياء بعض الشئ لكنهم مواظبون على دروسهم. شقيقتي الوحيدة أسمها دعاء وهي ولدت بقلب ضعيف مما جعلها تمرض كثيراً في طفولتها لكنها تعافت من كل شئ الآن. ورغم ذلك لاتزال المفضلة لوالديَ ربما بداعي الشفقة أو ربما كونها الوحيدة وسط ثلاثة أولاد. والدتي ذات تعليم بسيط لم يؤد إلا لوظيفة لا تقل بساطة عن تعليمها. موظفة في أحد الجهات الحكومية. تعمل يوماً وتتمارض ثلاثة أيام. تزوجت والدي بطريقة تقليدية بحتة. عندما تقدم لخطبتها لم تكن تعرفه أو حتى سمعت به لكنها وافقت كون سنها بدأ يقترب من تلك المرحلة التي تبدأ في تصنيفها في خانة العوانس خصوصاً كونها لا تحمل مؤهلات يمكن لبعض الشباب التغاضي من خلالها عن سن الفتاة كثراء العائلة أو تعليمها العالي أو حتى جمال متميز








بقي والدي. والدي رجل ترعرع في كنف أب غني لكنه مقتر على نفسه قبل أهله. توفت والدته في سن مبكرة فلم يجد له من يأخذ بيده أو يرشده. بل على العكس كان هناك العديد ممن كان مستعداً لسقيه جميع الممارسات الخاطئة. طبعاً لم يكن التعليم من أولوياته لذا كوالدتي لم يكن يحمل شهادة أو وظيفة مميزة. وعندما وصل لسن بدأ الشيب فيها يتسلل لرأسه أحس بأن الوقت قد حان ليتزوج. ولتكن من تكون فليس هناك مواصفات معينة في باله فقط المطلوب أن تعتني به في غير أوقات نزواته وأن تقدم له الطعام ونفسها كلما جاع أو اشتهى جماع لا أكثر ولا أقل. أما البيت والعيال فهما من مسؤولياتها التي يجب أن تعتني بها








طفولتي كانت مضطربة نوعاً ما فلقد إستيقظت على العديد من الخناقات بين والدي ووالدتي خاصة عندما يعود مترنحاً من إحدى سهراته. كان فظاً عندما يشرب الخمر فيبدأ بكيل السباب لوالدتي من غير سبب فقط لأنها لم تستيقظ عندما دخل المنزل أو أي أمر أتفه من هذا. لم يتوقف هذا عندما جاء أخي حمد من بعدي ثم دعاء وأخيراً أخي الأصغر ناصر بل ربما زاد الأمور تعقيداً عندما مرضت دعاء فأصبحت والدتي ترعاها بإهتمام مضاعف وسط إتهامات من والدي بأنها السبب في مرضها وأن جيناتها الوراثية التي ورثتها عن أهلها هي السبب في المرض. فجأة أصبح الرجل الذي لم يكمل الشهادة المتوسطة يتحدث عن الجينات وأكاد أجزم أنها جملة سمعها في أحد السهرات قبل أن يغيب عن الوعي وسط الملذات







كوني الأكبر الذي كان يكني باسمي لم يشفع لي أو يمنحني أية حظوة لديه. لا أذكر عدد المرات التي لطمني فيها دون سبب. أو المرات التي نهرني فيها أمام أصدقائي وسط سيل لاذع من الشتائم، وكأنما كان يريد اهانتي بتعمد وسبق اصرار وترصد، لأنني لم أسق الزرع أو لأنني لم أخرج كيس القمامة مع العلم أن هناك في المنزل من يُدفع له ليقوم بتلك المهمات لكن الأمر سيان عنده فقد سمعته مرة يقول لوالدتي بعد أن تدخلت لتمنعه من ضربي بأن تلك هي الطريقة الوحيدة لتربية الأولاد. حاولت الرد عليه أكثر من مرة دون جدوى. بدأت تلك المحاولات تزيد كلما كبرت عمراً وبدأ عودي يشتد لكن نظرته تلك المخيفة لا تزال تعيدني لمكاني وكأنني في المدرسة أمام مدرس شرير ولم أعمل الواجب أو احفظ الدرس








كان الجميع في المنزل يهابه. وكان يفعل المستحيل لإبقاء الأمر كذلك. إلا عندما يكون مع شقيقتنا دعاء فهي التي تفعل وتقول ما تريد ويكون برداً وسلاماً على قلبه. وكلما طلب منه أحد أمراً نهره حتى تأتي دعاء فتقول له كن فيكون. كان دائماً ما يقول أمام الجميع في حضوري أنه فقد الامل بي وأنها فقط دعاء من سيرفع رأسه وتصبح مدرسة في الجامعة. سألته ذات مرة لماذا يتمادى في حرماني ويتمادى في إرضائها. رد بعد أن جذبني نحوه من أذني بطريقة شككت فعلاً أنها سوف تُخلع من مكانها بأنه أولاً لا يفرق بيننا وثم هي مريضة وتستحق بعض الخاص من المعاملة وعندما رددت بأنها قد شُفيت تماماً ازدادت عصرة أُذني إلى أن تأسفت على وقاحتي







بخل جدي الشديد أصبح من سمات والدي فهو يكاد لا يصرف شيئاً على المنزل. وأكاد أجزم أنه لولا عمل والدتي لبتنا جياعاً ليال عديدة. أذكر يوماً كنا معه في سيارته في طريقنا للمدرسة. لم نكن نتكلم لأنه لا يحب أن يسمع أي صوت غير المذياع. كنا فقط نتبادل النظرات كلما أراد أحدنا أن يقول شيئاً لأحد. وعندما وصلنا للمدرسة تجرأ ناصر وطلب بعض النقود ليشتري شيئاً من المقصف. لم يرد عليه ولو بكلمة. بل كل ما فعله أن رمقه بنظرة غاضبة وكأنما طلب منه ناصر أن يقوم بعمل معيب، هز والدي رأسه بشدة فهمنا جميعاً أنه يأمرنا بالنزول من السيارة. التفت لناصر وإلا بدموعه تنسدل على خده. لم يغير ذلك شيئاً من موقف والدي فنزلنا ومسكت ناصر من يده وقلت له وأنا أشد عليها بأن الدموع ليست للرجال. كان من الغريب أن أقول ذلك وأنا من ينام كل يوم ودموعه على خده تبلل وسادتي وأقاوم بشده أن يكون بكائي بصمت ... صمت الرجال عندما تبكي








هل من الممكن أن يكون هذا هو الشخص نفسه الذي رأيته مرة صدفة مع أصحابه في أحد الأماكن العامة؟ كان الرجل الذي رأيته مرحاً للغاية يضحك بشدة بل اشتبك بطرقة كوميدية مع أحد رفاقه فقط للحصول على شرف دفع فاتورة الحساب. هذا الرجل الذي لم أره مرة يخرج ورقة نقدية من جيبه بداعي عدم وجود أي منها بحوزته كانت محفظته تكاد تنفجر من النقود. هذا الرجل الذي عندما يعود إلى المنزل من عمله يلقي التحية بهزة رأس ثم يدخل فراشه لينام ولكن ليس قبل أن يقبل ويحضن دعاء وسط نظراتنا جميعاً وهي تستصرخه وتقول ماذا عنا نحن. ننتظره حتى يصحو من نومه حتى نأكل فمن غير المسموح لنا ان نأكل قبله. يصحو من قيلولته ليقول لنا على الفور بأنه بمزاج غير قابل لسماع أي صوت. تدعوه والدتي لتناول الغداء فيأكل بصمت. تحاول هي أن تستنطقه فتبدأ بالحديث عن مشاكل البيت والخادمة وأم نوال جارتنا وخناقها المستمر مع أم هاني الجارة الأخرى. وبينما هي وسط حديثها يتوقف فجأة عن الأكل ويقوم من المائدة دون كلمة. أحس بشعور والدتي بالحرج والمهانة فأمسك يدها وأسألها عن نوال بنت الجيران وكيف هي وفجأة تنسى والدتي ما قد حدث لها للتو وتبدأ بالحديث عن ابنة الجيران التي تقول بأنها لي. يحدث هذا تقريباً كل يوم. لا أدري إن كانت والدتي بسيطة الأحاسيس أم أنها مجرد امرأة جعلتها الحياة بجلد تماسيح يقوى على أقصى المهانات التي كنت أود لو أنها أوقفتها قبل أن أولد فلا أجد نفسي في هذه المواقف. وقبل أن نقوم من المائدة يكون هو في طريقه للخروج من البيت ولا يوقفه شئ حتى منتصف الليل عندما يعود مترنحاً. رجل ذو شخصيتين، واحدة لبيته وعياله وأخرى خارجه. لطالما تفكرت في رجال كهذا. رجال لا يمكن وصفهم إلا بالدكتور جيكل والمستر هايد. بشر ينقلبون تماماً وكانك تنظر لشخصين. وللأسف ظفرنا نحن بمستر هايد وربما حظيت دعاء وكل بشر خارج محيط بيتنا بالدكتور جيكل







كل هذا أثر سلباً في نفسيتي فلم أعد مهتماً بالمواظبة على دروسي. وكلما رسبت في مادة جاءتني لطمات هزت أركان وجهي حتى لم يعد هناك إحساس بالألم. بل أصبحت أتحداه كل يوم لأرى عينيه وهي تمتلئ بالحقد ويده وهي تهوي على وجهي فقط لأضع وجهي قريباً منه ثانية ليلطمني مرة أخرى. لم يكن شعوراً بالسادية أو شيئا من هذا بل كنت أريد أن أراه يفقد أعصابه كما يفقدني أعصابي كل لحظة. كنت أريد أن أرى يده وهي ترتجف بعد فاصل الضرب وهو يشتم كل الدنيا ومن فيها وأنا أبتسم بداخلي رغم كل ما قد حدث







بدأت بالتلصص عليه كل ليلة عند عودته من الخارج وهو يترنح. ربما فعلت ذلك من باب التشفي أو من باب حماية والدتي إن حاول الإعتداء عليها كما فعل أكثر من مرة قبل ذلك. وهكذا كلما سمعت صوت حركة في الصالة قفزت من سريري بخفة وأختبأت خلف الحائط أو أحد قطع الأثاث. كنت أجازف بالاقتراب منه بعض المرات فقط لأرى نظرته السكرانة. أراقبه حتى أتأكد أنه دخل سريره أو أنه نام في أي مكان آخر كما كان يفعل مرات وينام على السلم. وبهذا أكون قد أطمأننت فأعود لفراشي







أستمر ذلك لفترة طويلة حتى كان ذلك اليوم الذي بعد أن تأكدت من نومه رجعت لسريري. لم يكن سكراناً ليلتها على غير العادة. سمعت صوت أقدام فقفزت تلقائياً من السرير ولم يراودني أي تساؤل عمن يكون المصدر خصوصاً وأن والدي قد دخل السرير. وقبل أن أصل للسلم رأيته ينزل من أمامي وهو يحمل عصاً غليظة. يبدو أنه قد سمع الصوت نفسه. وعندئذ فقط اكتشفت أنه لابد وأن يكون هناك لصاً أو شيئاً من هذا القبيل. اختبأت لأرى ما يحدث وأبقيت عيني على والدي وهو ينزل ببطء. وفجأة ظهر شخص في منتصف القاعة. مشى إلى المنتصف ووقف ينظر بإتجاه أبي. رفع والدي يده بالعصا ليكون المتسلل على علم بوجود سلاح. لم يحرك الشخص الغريب ساكناً. كان واقفاً ينظر لأبي دون حراك. نزلت بعض الخطوات حتى أسمع ما يحدث. أشار الشخص لوالدي أن ينزل العصا ودار بينهما هذا الحديث




والدي: من أنت؟



الغريب: أنا من ينتظره الجميع



والدي : أنت لص أو قاتل. سوف أطلب الشرطة الآن



الغريب: لن ينفعوك كما هي عصاك



والدي: من أنت وماذا تريد بحق الجحيم؟



الغريب: يبدو أنك في عجلة من أمرك للذهاب هناك


والدي: أذهب أين؟


الغريب: الجحيم ... ألم تذكره للتو


والدي: وهل انت من يقرر من يذهب للجنة و من يذهب لجحيم


الغريب: طبعاً لا ... لكنني أعرف أكثر مما تظن عنك وعن أهل بيتك


والدي: وكيف لك ذلك


الغريب: قلت لك أنا من ينتظره الجميع لكني آتي بغير ميعاد. أنا أمر بك وبغيرك خمس مرات كل يوم أنظر بالوجوه غيرك لأبشرها انني قادم لا محالة


والدي: ما هذا الجنون ... كيف تمر على كل البشر وكيف أنني لم أرك من قبل ... انت مخمور او حشاش ... من تظن انك تخدع بحديث كهذا ... أياً كان فأنصحك ان تغرب عن وجهي الآن


كنت أرتجف وأنا أسمع هذا الحوار الغريب. مددت رأسي حول العمود لأرى شخصيته فوجدته ينظر إليّ في عيني بعينيه اللامعتين. له وجه جميل جذاب لكنه يشع بالقوة من خلال تقاسيم رجولية أضفت عليه رزانه. كان مخيفاً وهو يكاد يخترق جسدي بنظرته بل أقسم أنه قد فعل ... حتى سمعت صوته مجدداً


الغريب: عادة لا يراني أحد لكنني أردت ان يراني بشر هذه المرة لأنني أريد أن يُسمع قولي ... قال هذه الجملة وهو ينظر ناحيتي فأرتددت خلف العامود لأخفي جسدي .. ثم اطرق مكملاً ... أفعل هذا كل يوم حتى يأذن لي ربك بقبض الروح التي أمامي. وكما ترى فأنا هنا لقبض روح أحد في هذا البيت

قال ذلك وعينه بدأت تشع نوراً ... لم أعرف ماذا أفعل وأجزم أن أبي انتابه نفس الشعور. لكنني سمعته يقول ... يا إلهي هل أتيت لأخذ ابنتي الوحيدة ... قالها وهو يركض ناحية السلم متجهاً للطابق العلوي. مر من أمامي بسرعة دون أن ينتبه لي ودخل غرفة دعاء وإلا بالرجل الغريب ينتظره هناك. هنا أيقنت أن الرجل لم يكن يكذب وأنه لابد أن يكون كما يدعي ملك الموت الذي سمعت عنه في حصص الدين المدرسية وإلا كيف يكون قد وصل قبل أبي وقبلي وقد تركناه للتو في الأسفل. عندما نظرت وجدت والدي يحاول أن يقف كالسد مابين الملك ودعاء رغبة منه في حمايتها. كان يبكي ويصرخ وهو يقول دعها تعيش لقد قاست في صغرها كما لم يقاس طفل آخر. لم يرد الملك كان ينظر لدعاء بنظرة ثاقبة وكان يتمتم بكلمات. نظر لوالدي وقال: لا تخف لم آتي لها

صرخ والدي: ابني الأكبر

لم أستوعب ما سمعت ... أنا المقصود؟ أنا الميت؟


ركضت لفراشي وكان الملك واقفاً مقابل سريري ينظر إلي. امتلأت الحجرة برائحة زكية تشبه اللافندر الذي ينمو في الحدائق. اختبأت تحت لحافي وأنا أرجف من الخوف. أسناني تصطك بعضها ببعض. لم أكف عن قول بسم الله الرحمن الرحيم. لم أعرف ماذا أقول غير ذلك وظللت أرددها بهمس وسط اصطكاك الأسنان. دخل والدي الغرفة ورما نفسه على جسدي وهو يصرخ لا ... كان يقول لي كم هو آسف على مافعله معي. كان يصرخ ويطلب مني المغفرة. سمعته يقول: سامحني لم أقصد أن أهينك كل هذه الإهانات. سامحني على كل مرة مددت يدي عليك. أنا آسف أنا آسف


أخذ يدي وبدأ يمسح بها على جبهته ووجهه. كانت دموعه تنسدل بغزارة على خده. كنت أرتجف وأنا أحس أن الميعاد قد حان. لم أحس وإلا بسائل دافئ على رجلي. تبولت على نفسي دون أن أحس. كنت خائفاً من أن أفتح عيني لأرى ما يحدث حولي. لم أعرف ماذا أفعل. وكيف لي أن أعرف كيف يموت الإنسان وما هو شعور خروج الروح ... وهل هناك من يأخذ بيدي وإلى أين ياخذني ... مازلت صغيراً لم اعش بعد والخوف يقتلني ... ووالدي هل أسامحه قبل أن اموت؟

سمعت صوته يسأل أبي: ألم تدمي انفه كل يوم ... هل الآن اصبح من تحب ... الا تود ان تضربه مرة اخيرة


كان أبي يبكي وهو يرد بانه لم يضربني مرة الا ليعلمني شيئاً ... لا أدري لماذا حتى وانا في هذا الموقف وددت لو أنني اعترضت على كلامه ... مرة اخيرة


وفجأة سمعت صوت الملك يقول لوالدي ليس هو. لم أعرف ما إذا كان علي أن أفرح بسماع ذلك أم أحزن لكون هناك من هو ميت في عائلتي. صرخ والدي خوفاً من أن المقصود هما حمد وناصر وكانا ينامان في الغرفة المجاورة. تكرر المشهدان السابقان مع الولدين ولم يكونا هما المقصودين أيضاً. هنا قال والدي بصوت مخنوق بأنه لم يتبق سوى والدتي. سقطت على الأرض عندما سمعت ذلك فهي سندي في الحياة ودونها ربما كان الموت أجدى وأهون من العيش. عندما وصلت لغرف والديّ وجدته على الأرض ممسكاً بيدها وهو يبكي. كان يطلب السماح منها وهي لا ترد. كانت عيناها مغمضتين تبدو كملاك. لم أراها بهذا الجمال من قبل. لا أدري ان كانت كما هي لكنني اراها جميلة لعلمي أنها لن تكون معي بعد هذه اللحظة


والدي يبكي ويضرب وجهه بيديه الأثنتين ثم يدني وجهه منها ويقبل جبينها. وأنا واقف خلف الباب وأحس بقطرات البول تنزل من سروالي على ساقي. دموعي تنهمر وسط ما أراه ورغم ذلك أخشى أن أقول شيئاً فيحس الأثنان بوجودي. بدأ والدي يطلب من الملك أن يبقيها ليوم واحد فقط. وعندما سأله لماذا قال ليعتذر لها عن كل ما بدر منه في السنوات الماضية. ضحك الملك وقال الآن اكتشفت أنك تريد يوماً واحداً. كانت حولك كل يوم ولم تحس بها كإنسانه والآن تريد يوم واحد؟ بشر عجيب


رمى والدي نفسه عند قدمي الملك وبدأ يقبلهما وبدأت أقترب لأشارك والدي فعله فلربما رق لحالنا الملك وشفع عند من ارسله ليبقيها ... فرمقني الملك بنظر تسمرت في مكاني منها ولم أتحرك ... همست له أرجوك أبقيها لي لا تبقيها له ... لم يرد


قال له الملك لاتحاول فقد قضي الأمر وليس هناك من تبديل لكنها ليست هي من جئت لقبضها ... بل أنت


كان هناك صمت قبل أن يقول أنه أبي المقصود. ثم كان هناك صمت أطول هذه المرة. كان أبي يمسك يد أمي بكلتا يديه وفجأة وجدت يدها تسقط وأبي يخر على الأرض بجانب سريرها. وهنا نطق الملك وقال: الآن عرفت قدر زوجك وأبنائك ... أنظر لجسدك هناك مسجى في الفراش ... لقد قبضت روحك في اللحظة التي سمعت بها صوتي أول مرة


نظرت لفراش أبي ولهول مارأيت كان فعلاً هناك. نائماً أو تحسبه نائم. لكنه كان أيضاً موجوداً أمامي على الأرض بجانب والدتي. غطى والدي وجهه بكفيه وبدأ يبكي بصوت مرتفع أسكته صوت الملك قائلاً بأنه من الآن لن يسمع بكاءه أحد فقد أصبح روحاً. لا أدري لماذا كنت أسمعه رغم ما قاله. حاول أن يمسح دمعه فقط ليكتشف أن عينيه لا تدمعان ... وكيف تدمع ... فهو روح ...وعيون الأرواح تبكي لكنها لا تدمع



فتحت عيني على صوت بكاء وعويل لأرى نفسي في فراشي وأمي تلطم وجهها عند باب غرفتي. كانت تصرخ بي بأن أقوم من النوم فأبي قد مات ... نظرت حولي فلم استوعب الحلم الذي مر علي البارحة ... أوكان حقاً حلم أم حقيقة ... هل كنت أنا هناك ... أم أن كل ما رأيت كان مجرد خيال صادف عقلي فيه ما حدث فعلاً


تحركت في سريري لأخرج منه وإذا بي أحس برطوبة وبلل يملأ فراشي وملابسي ... رائحة البول النتنة ملأت أنفي ... قشعريرة قوية رجت جسدي النحيل ... ترى لماذا تبولت ... هل خوفاً من شئ أو احد




سنوات مرت منذ ذلك اليوم



أتخيل تلك العيون تلاحقني كل مكان ... بل في أوقات معينة أحس بأنفاس في وجهي ... كلما شممت رائحة اللافندر في مكان تلفت حولي لعلي أراه و أرى من جاء ليقبض هذه المره ... أقف ساكتاً حتى تتبخر الرائحة من حولي فأعلم أنه لست انا ... هذه المرة على الأقل