الجمعة، أكتوبر ٢٠، ٢٠٠٦

طفلتي

في ليلة ماطرة باردة من أحدي ليالي العاصمة البريطانية الشتوية جلست وحدي في غرفة المعيشة أفكر في حياتي. ربما كان منظر المطر وهو يهطل أمامي بشدة ليبلل ما تبقى من وريقات على شجرة التفاح المزروعة أمام ناظري في حديقة منزلي هو السبب. تلك الشجرة التي كانت قبل أيام ناظرة بورقها ممتلئة بالحياة والثمر أصبحت الآن مجرد أعواد متصلة ببعض. تكاد تحسبها ميتة وهي حية. ربما هي ذكرتني بحياتي

لم أجد شيئاً يستحق الذكر في حياتي. ربما هذا كلام يجافي الحقيقة. فالحقيقة يجب أن تقال أنني ناجح جداً في حياتي العملية. فأنا أعتبر من كبار مدراء الشركة التي أعمل بها وإدارتي تعتبر ناجحة بكل المقاييس وكل من يعمل معي يحترمني ويقدرني ويعمل لي ألف حساب. أما على النطاق الشخصي فلدي عائلة صغيرة مكونة من زوجة محبة وطفلين يملآن على حياتي سعادة. وفي نظر الأصدقاء والحساد على السواء محظوظ جداً. لكن السؤال هو لماذا رغم كل ذلك أحس أن هناك ما ينغص عيشي؟ ربما هو الزواج التقليدي هو من ألوم. هذا الزواج من إمرأة أعرفها حق المعرفة. بل كنت أحبها تماماً كما أحببت شقيقتي هالة. فلما تزوجتها شعرت وكأنني أعيش مع أحد أفراد أسرتي الكبيرة. الفرق الوحيد هنا هو نومي معها في سرير واحد دون أن يحتج الدين علينا. وياليته فعل فلربما أرتحت من كل هذا الألم الذي أحسه. ألا يعرف الآباء ماذا يصنعون بأبنائهم عندما يجبرونهم على الزواج من من أشخاص لا يكنون لهم حباً بالمعنى الزوجي بل كل ما هنالك حب أخوي! لماذا أدفع ثمن قرابة أسرية من حياتي فقط لتقوية روابط لا أعترف بها ولا أقرها. لماذا ألوم الجميع إلا والدي ونفسي

أو ربما مازلت أبحث عن تلك الفتاة التي لعبت بي كما تلعب الطفلة الصغيرة بدميتها. لعبت بي كيفما شاءت ورمتني كما ترمي حذاءها في نهاية اليوم ... على الأرض ... دون أن تفكر ولو ثانية في أحاسيسي

تعرفت عليها بصدفة غير مرتبة عندما سافرت إلى بلدي لأقضي بضع أيام مع والدتي العجوز. كنت ماشياً في أحد الأسواق الراقية فإستوقفتني تلك الإبتسامة العابرة من فتاة جميلة ساحرة مرت من جانبي. لم أكن مستوعباً ما يجري فلم أفهم ماذا يمكن أن يجعل فتاة في مقتبل عمرها وجمالها تفكر حتى بالنظر إلى رجل عادي مثلي وفوق ذلك تغمرني بإبتسامة ليست ذات عطف. لم أفهم كيف لمثلها أن يأخذ من وقته ليهدره على من هو على شاكلتي. فلست بالشاب الذي كنته ذات مرة منذ زمن ولى. ولست بالجذاب أو الساحر الذي ممكن أن يلفت نظر أحد عندما يدخل إلى قاعة مملوءة بالناس. بل لطالما تمنيت أن أكون هذا الشخص. ربما لمحت في عيني نظرة رجل كان. وربما لمحت بريق قد خبا منذ زمن ولى ولم يرجع. وربما، وتلك الأقرب للحقيقة التي لا أود أن أعترف بها، رأت شخصاً ضعيفاً أمامها. شخص يمكنها أن تحبه حتى تجد من تحبة بصدق لترميه للكلاب

أعترف أن جمالها أضعفني. تلك الإبتسامة المرسومة على شفاه حباها ألله بلون وردي لم تصنعه مصانع الجمال في باريس بل خلقه ليري الناس كمال خلقه وليثبت لمثلي لا يؤمن بشيئ أن هناك من هو قادر على صنع أي شيئ. كم وددت أن أرتوي من تلك الشفاه حتى قبل أن أخاطبها للمرة الأولى. ولعلها رأت كل هذا في عيني وقدرت في عقلها أن هذا هو ما كنت أبحث عنه. ربما أقول تلك الجملة لأعطي نفسي بعض السلوى في أنها هي من خطط لكل ما حصل لي دون أن يكون لي أي دور ... أنا الرجل

لعل ما حصل حصل بسرعة كبيرة منذ شاهدتها بتلك الإبتسامة إلى تبادلنا أرقام الهاتف هو ما أفقدني توازني في الحياة. حقا ودون مبالغة. فأصبحت حياتي تدور في فلكها وأصبحت لا أرى الدنيا إلا من خلال ناظريها. فجأة أصبحت أتحين الفرص لأسافر إلى بلدي لا لأرى والدتي فلم يعد ذلك همي على الرغم من أن هذا ما كنت أقوله لزوجتي. بل أصبحت هي وفقط هي من أريد أن أكون حوله كل يوم. بدأت أتحين الأوقات التي تشتد فيها ربكة إمتحانات الأولاد لأفاجأ زوجتي بنيتي السفر لأضمن عدم مرافقتها لي فلست على إستعداد أن أبدد أي لحظة في السفر في ترفيه زوجتي على حساب حبيبتي

كم من مرة ومرة سألتها عما تفعله في غيابي عندما لا أكون حولها في البلد. قالت أنها تنتظرني كل يوم لأتصل حتى ترتاح بسماع صوتي. كنت أقرأ الكذب في عينيها وهي تقول ما تقول وأراه صدقاً صدوقا لا تكذيب فيه. بل كنت أعطي لنفسي الحق في الشك بزوجتي وهي في الغربة وحيدة مع الأطفال وأفكر أفكار شيطانية فيما عساها تفعله وأنا بعيد عنها. أعترف الآن بسفالة تفكيري حينها

كنت أرى حياتي غير مكتملة إلا بها. كانت لي نور الصباح وعطر الربيع وضوء القمر وجمال النجوم وبراءة الطفولة. كانت هي الدم الذي يسري في عروقي. كانت هي لي أحففها بحنان ورقة. أحببتها بكل مشاعري كما لم أحب من قبل. ولم أكن قد أحببت من قبل أحد. حرصت أن أُعلمها كم أحببتها كل يوم حتى وأنا بعيد بآلاف الأميال. أرسلت لها وردة حمراء لترسم معنى الحب كل يوم سبت لتبدأ أسبوعاً جديداً. أرسلت لها وردة بيضاء كل أربعاء رمزاً للصفاء لتختتم الأسبوع. وما بين الحب والصفاء أرسلت لها وردة صفراء باقي الأيام لتعلم كم كنت أغار عليها من الهواء. كنت أصحو كل يوم قبل الفجر فقط لأرسل لها تحية الصباح على هاتفها لأكون أول شيئ تراه كل صباح
الغريب أنني لم أفعل أي شيئ من هذا القبيل لزوجتي. هل مازلت حاقداً على قرار أبي فعاقبتها بدلاً منه كوني لا أقدر على ذلك ولكن من السهل إنزال أشد العقوبة عليها

فاجأتني يوماً بخبر تقدم أحدهم لخطبتها. ولا أدري لماذا تفاجأت بمثل هذا الخبر. فلم أكن مستعداً للقدوم على مثل هذه الخطوة، ليس لأنني لا أحبها بل على العكس كنت على شفا أن أعبدها هي دون سواها بدون مبالغة، لكن كوني من عائلة ليست سليلة دماء زرقاء أو حتى حمراء بل ربما مثلي دمه شفاف لا لون له فجميع الألوان وزعت على عرب ذو قيمة وبقينا أنا ومن مثلي دون لون. أما عن السبب الآخر والأهم فهو فرق السن بيننا والذي يصل إلى عشرون سنة. وكي أزيد الطين بلة فأنا متزوج ولدي أطفال فمن يقبل بتزويجي أياها
بداية تسمرت على الهاتف فلم أعرف بماذا أرد. ثم بدون شعور وجدت دموعي تنسدل على خدي. بدأت أبكي كالطفل معها على الهاتف. ندبت قلة شجاعتي في عدم إتخاذ ذاك القرار بالتقدم لأهلها وليكن ما يكن. فقد يرون أنني أنسان له مكانته ويتغاضوا عن الأشياء الأخرى
سألتها عن موعد الزفاف وأعلمتني أن خطيبها يريد إنهاء كل شيئ بسرعة وأنه حدد نهاية الأسبوع المقبل لإتمام الزفاف. لم أصدق كيف كانت تتكلم عنه بأريحية و إعجاب وهي لم تعرفه إلا من أيام معدودات. بل لم تكن تنطق أسمه إلا وتسبقها بكلمة خطيبي.
عقدت العزم على رؤية ذلك المحظوظ الذي دمر حياتي دون أن يدري. فسافرت إلى بلدي وتوجهت في اليوم الموعود إلى الفندق الذي وصفته لي. لم يكن هناك أثر لزفاف. سألت موظفي الفندق فلم أجد جواباً لسؤالي. هاتفتها وأنا مرتبك فآخر ما كنت أريده هو أن أسبب لها مشكلة في يوم زفافها. أطلقت ضحكة مدوية وهي تعلمني أن الأمر لم يكن سوى مزحة فليس هناك زفاف ولا زوج بل كل ما هنالك أنها أرادت أن تعمل لي مقلباً فقط لا غير. ضحكت عليّ كثيراً. غضبت قليلاً قبل أن أبدأ بالضحك على نفسي. ربما لم أعرف هل أحزن على نفسي أم أفرح كونها مازالت لي ولم تصبح لغيري ... بعد

كلما مضى وقت أكثر لي معها زاد حبي لها أضعاف. وربما زاد خنوعي أضعاف مضاعفة. أصبحت كالخاتم في يدها. تطلب مني الحضور لأنها فقط إشتاقت لرؤيتي فألقي كل ما في يدي وأسافر في تلك الليلة لأكون أمامها في اليوم التالي إن لم يكن في نفس اليوم. أهملت بيتي وعيالي. أصبح عملي وبيتي يأتون في الدرجة العاشرة والحادية عشرة على التوالي بينما أحتلت هي المرتبة الأولى والثانية والثالثة دواليك حتى التاسعة. وأشك لو أنها طلبت أن تحتل المرتبة العاشرة أيضاً لوافقت على التو

كم كنت سعيداً عندما أخبرتني أنها ذاهبة للحج. لا أدري لماذا فرحت فلم أكن يوماً بالمتدين بل العكس تماماً. ربما فرحت لأنني فكرت بأنها سوف تغير من طريقة لبسها وتعاملها مع الشباب عندما تعود. وربما فكري أصبح بضحالة تفكير طفل في العاشرة من سنه. ما فكرت فيه لم يكن إلا هراءات ليست منطقية البته. أنا أعرف ذلك الآن لكني وقتها لم أعرف سوى حبها وكيف أحافظ عليه وعليها. كم تمنيت وقتها أن أكون معها. أن أكون محرمها لأحميها بجسدي من تدافع الحجيج. لأدعو الخالق في بيته أن ندوم لبعضنا البعض. لم يحدث ذلك. طلبت منها أن تدعو لي في عرفة أن نكون سوياً في العام القادم. كانت هناك إبتسامة على ثغرها لم تفارقها طوال الوقت وأنا أودعها ودمعي في عيني. عرفت لا حقاً ومتأخراً كثيراً سر تلك الإبتسامة من أحد صديقاتها اللاتي كن يغرن منها. أخبرتني تلك الغيورة أن حبيبتي لم تكن أصلاً في الحج. بل كانت في لبنان تقضي أمتع السهرات مع شلتها من الأولاد والبنات. غضبت حينها كما لم أغضب من قبل. كانت تلك القشة التي قصمت ظهري. لم أذكر العديد من المقالب والمواقف المهينة التي وضعتني فيها لتضحك علي. لم أذكر العديد من قصص الشباب الذين عرفتهم من ورائي وأعلمتني بها صديقتها الغيورة والتي لولاها لكنت أعمي حتى الآن

قررت أن أتركها لأنجو بنفسي من تدمير عائلتي بيدي. قررت أن أكتبها في قصة أو أهجيها بشعر لأروي مدى قسوتها علي. لم أعرف ماذا أو كيف أكتب فلم أمسك قلم في حياتي لمثل تلك الأمور. عن ماذا أكتب فأنا مذنب مثلها أن لم يكن أكثر في كل ما حصل. كلما مسكت القلم لم ترضى يدي أن أسطر سطراً يقدحها. مازلت أحبها رغم كل شيء. قررت أن أن أقرأ لأعرف ماذا أكتب. ذهبت لمكتبة الساقي في وسط العاصمة. أشتريت روايات القصيبي وواسيني وعلوان وتركي الحمد وكل من كتب ولو كلمة واحدة في الحب والغدر. أسميت نفسي زبون الأسبوع للقائم على المكتبة العراقي الذي لم يعلق بغير كلمة ... المحب يمكنك أن تراه من بين ألف ... قالها مع تنهيده أحسست بمرارة كبيرة فيها. ربما كان يحب أحداهن أيضاً
خرجت راكضاً لبيتي. قرأتهم كما لم أقرأ من قبل. لم أنجح للمرة الألف في كتابة شيئ. طلبت من أحد الصديقات أن تعيرني كتاباً يعينني كل ما أنا فيه. أرسلت لي ذاكرة الجسد لأحلام. شعرت وأنا أقرأ أن أحلام قد كتبت قصتي بيدها وقررت أن تحرف الشخصيات لتبعد عني الحرج. لا أدري لماذا رأيت نفسي في صورة خالد ذو اليد المبتورة والذي يعشق تلك الفتاة الصغيرة وهو يعلم أنها لن تكون له. لم أقدر أن أكمل الكتاب فالمقارنة أقرب من أن تكون صدفة. رميته من شباك السيارة وأنا ألعن الساعة التي بدأت بك يا أحلام. رميته فقط لأرجع أبحث عنه في ظلام الليل لأنني إكتشفت أنني لم أعرف ماذا يحدث لخالد في نهاية الأمر وربما أردت معرفة مصيري في عيون أحلام

جلست في أحد المقاهي العربية في لندن أحاول أن أكتب بعض السطور عنها. كنت الزبون الوحيد في تلك الساعة. سألتني صاحبة المقهي السيدة اللبنانية العجوز ... أنت خليجي ... أجبتها نعم ... وعرفت بعدها لماذا سألتني بعد أن أبدلت شريط وديع الصافي بآخر خليجي رغم حبي له لكنني لم أشأ أن أعاتبها وهي فعلت ما فعلت لترضيني. لم أكن أستمع لأي أغنية حولي. هكذا أنا أدخل في حيز ليتلاشى كل شيئ حولي ما عدا محيطي. رفعت رأسي وإذا بأغنية لعبدالله رويشد لا أعرفها لكن أستوقفني مقطع فيها يقول ... طفلة ولعبت فيني ... لم أستوعب ما سمعته ... حتى أنت يا عبدالله تعلم بأمري! ياليتكِ يا سيدتي قد أبقيت وديع فوديع وديع عليّ ... مزقت الورقة التي كتبتها فقد عرفت الآن أنه أنا من يجب أن أكتبه وليست هي

آخر مرة تحدثنا فيها كانت عندما هاتفتني بعد إنقطاع طويل لتعتذر عما بدر منها في حقي مرات ومرات ومرات. كنت قد أقسمت ،كما أقسمت من قبل كثيراً ثم أرجع عن قسمي من أجلها، إن هاتفتني ثانية لأغلق السماعة ولا أرد أو أستمع لها. وجدت نفسي فور أن سمعت صوتها أتحدث دون أي إعتبار لنفسي. كانت تعتذر وأنا أهدأ من روعها. كانت تعتذر وكنت أريد أن أكون أنا من يعتذر وربي فقد فعلت ذلك. عن ماذا إعتذرت لا أدري. كل ما أعرفه أنني إعتذرت لها. مشكلتي أن قلبي لم يكن يريد أن يراها ضعيفة هكذا. ولم يرق قلبي لنفسي التي ملت وهي تذل نفسها لها
قلت لها أعطيني رقم هاتفك لأكلمك لاحقاً. أحسست بصوتها يبتسم. سألتني كمن هو غير مصدق ما يسمعه إن كنت جاداً فيما أقوله. أجبتها أنني أحبها لو مهما حدث. أحسست بروحها وهي تخاطب روحي بقولها يا ذليل لكني لم أهتم أو أتراجع. قالت لي أنها سوف تعاود الإتصال ذلك المساء لنكمل حديثنا. كانت تعرف أنها لن تتصل مرة أخرى فقد أثبتت لنفسها أنها تقدر أن تلعب بي بإشارة من أصبع قدمها الصغير وأنني سوف ألقي بنفسي تحت قدميها متى شاءت

لم تتصل ثانية ... وظللت أنتظر ذلك الإتصال الذي لم يأتي حتى الآن

طفلة ولعبت فيني