الاثنين، نوفمبر ٢٧، ٢٠٠٦

الزنزانة

1
ما الذي يحدث هنا
كل ما أعرفه أنهم أخذوني من منزلي من بين أهلي هذا الصباح وأحضروني هنا. لم يسمحوا لي بتوديع والدتي ... زوجتي ... أبنائي
ماذا يريدون مني فلم أفعل شيئاً لأحد فأنا مسالم بطبعي، بل أنا جبان بطبعي ودائما تجدني أمشي بجانب الحائط
ليست هذه بالمرة الأولى التي يأخذون فيها أحدنا. لكنها بالتأكيد المرة الأولي التي أكون فيها أنا السجين ... بل الأسير. ترى هل سيسمحون لي برؤية أحد. أتمنى ذلك فلا أريد أن أكون وحيداً هنا. المكان بارد ولا يوجد شيئ لتدفئته. الهواء راكد وغير نقي بل غير صحي. الأوساخ في كل مكان على الأرض والحائط. يا إلهي هل تلك بقايا جسد ... بل فضلات جسد ... ترى متى آخر مرة كانت عندما نُظف هذا المكان؟ يجب أن أتولى ذلك بنفسي ... ترى هل أطلب من أحد أن يمدني بيد العون لننظف المكان ... حقاً أنني مجنون فكيف أفكر بتنظيف الزنزانة بدلاً من أن أفكر بالهروب من هنا ... أو على الأقل معرفة ماذا أفعل هنا على أقل تقدير
2
مضت ساعتان ولم يحضر أحد لينظر حتى بوجهي ... على الرغم من أنني أحس بأنني مراقب طوال الوقت. لماذا أنا هنا؟ أسئلة تكاد تهلكني وأنا لا أملك إلا التفكير بها. الجوع بدا يشق طريقه لجسدي النحيل أصلاً. ترى بماذا يفكر أبنائي الآن؟ هل كانت هي المرة الأخيرة تلك التي سمعت بها عراكهم هذا الصباح. ما أحلى صوت العراك عندما يكون من أبنائي. أعلم أن هذا لم يكن رأيي هذا الصباح لكني أعترف بتغييره الآن وإلى الأبد. وأمهم الحنون ... آه يازوجتي العزيزة كم أحبك يا قمري وأوعدك أنني سوف أعود لكي قبل أن تفتقدينني. أحس أنني سأعود لأحضانك قريباً جداً. المشكلة الوحيدة في الأمر هي أنني أحس أن ما أقوله الآن هو لأُطمئن نفسي فقط لا أكثر
3
أسمع أصوات تأتي من بعيد. ربما أحضروا بعض الطعام. أرجو ذلك فقد مرت على الأقل عشر ساعات وأنا هنا محبوس وحدي أمشي من زاوية لأخرى ومن حائط لحائط. الآن عرفت إحساس السجين الذي لطالما سمعت عنه. الوحدة القاتلة. هذا كثير علي
وفجأة تفتح الأبواب ويُرمى جسد بجانبي على الأرض. لم يتحرك. هل تراه ميتاً أم عُذب لدرجة أنه لم يعد يستطيع الحراك. أهذا مصيري أيضاً؟ دنوت منه ببطئ ... لمسته ... تحرك جسدة بعيداً عني ... كانت ردة فعل فما زال رابضاً في مكانه لا يتحرك. أحس بتلك النظرات من خارج أسوار الزنزانة تراقب ما يحدث بالداخل وكأنما يريدون معرفة ما إذا كان السجين الجديد سوف يعيش أم لا. وفجأة دبت فيه الروح. تحرك. نظر إلي. إقترب مني. حام حولي. تسمرت مكاني ساكتاً فلم أعرف ماذا أقول له. يبدو وجهه كالعفريت. له تقاسيم شيطانية بل أقسم أنه شيطان. هل أقول له مرحباً بك في بيتك الثاني؟ من المجنون الذي أمر بوضع هذا المعتوه هنا معي في نفس المكان؟ أقسم للجميع أنني لم أفعل شيئاً فأنا شخص مسالم. كل ما أريده هو أن اعيش وأموت بين أهلي، هل هذا بالطلب المستحيل؟ أم أصبح العيش للعصابات والقوي يفتك بالضعيف والكبير يأكل الصغير ولعمري شكل هذا الوحش يوحي بأنه سوف يأكلني لامحالة
منذ متى أنت هنا يا هذا ... قطع علي شتات فكري بسؤاله
منذ الصباح الباكر. تخيل لم يعطوني فرصة لأودع أهلي. بل أخذوني عنوة. إقتحموا مسكني دون إستئذان و وو
هل طلبت منك أن تروي لي قصة حياتك؟ لا أعتقد ذلك أنا جائع ومنهك وأريد النوم
وانا أيضاً لكني أريد أن أعرف متى سيطلقون سراحي
نظر إلي وضحك وهو يقول ... أنت أغبى مما يوحي شكلك به. لن تخرج من هنا إلا وأنت ميت أو إلى سجن آخر
كان وقع كلامه علي وقع العاصفة التي تدوي فجأة وسط سكون الليل فتدمر كل شيئ في طريقها ... ماذا تقصد بكلامك ... سألته
ما أقصده أنك هنا للأبد يا غبي
مشيت للطرف الآخر من الزنزانة وأنا أفكر في كلامه. هل يمكن أن يكون ما يقوله صحيح أم أنه يريد ترويعي فقط لا أكثر. إن كان ذلك قصده فقد أحسن العمل فأنا أحس بخوف شديد مما هو آت
نظرت ناحيته وإذا به ينظر إلي نظرة غريبة. ثم إنطلق نحوي بسرعة. بدأت أعدو في دوائر حول الزنزانة وهو يجري خلفي. لا أدري لماذا يهاجمني ولا أدري لماذا أركض. أسمع ضحكات تأتي من الخارج. يبدو أن أحدهم يستمتع بما أنا فيه الآن من عذاب وهذه قمة السادية على ما أعتقد أن هذا أسمها. قررت بيني وبين نفسي أن أقوم بمهاجمته بدلاً من العيش بخوف للأبد. وقفت وإلتفت ناحيته وصرخت صرخة كبيرة ثم بدأت أركض ناحيته. يبدو أن شجاعتي المفاجأة كان لها أثرها فقد بدأ هو يعدو في حلقات وأنا خلفه. لا أدري لما أجري خلفه أو ماذا سأفعل لو أنني أمسكت به. بدأت أسمع الضحكات بالخارج تتزايد. لا أقدر أن أستمر خلفه فهو ذو طاقة عالية. بدأ يضحك بشدة ثم توقف قائلا ... أرجوك أنا أستسلم ... قالها وكأنما ما حدث للتو لم يكن أكثر من مزحة للترفيه عن نفسه. اليوم كله بحذافيره غريب. بل غريب جداً
4
وقفنا كل في زاية من المكان. بدأت أحس بتلك النظرات بالخارج تقترب من الباب. يفتح الباب وتُرمي بعض الفتات من الطعام ويغلق الباب بسرعة. نظرت للطعام ثم إلتفت ناحية الشيطان فتلاقت نظراتنا وبدون أي كلمة هجمت على الطعام. كانت ردة فعلي متأخرة جداً فقد إستحوذ على جميعه وبدأ يأكل بشراهة غريبة
هل لي ببعض منه أسُد به رمقي فلم آكل شيئاً منذ الصباح ... قلت له
لم يرد علي بل إستمر بالأكل وكأنما لم يسمع ما قلته له. ألا يشم رائحة الطعام النتئة. كيف يمكن أكله؟ أكاد أتقيأ من رائحته. أقول قولي هذا وأنا على أتم الإستعداد لمشاركته فيه إن سمح لي ... لكنه لم يفعل
جلست في الزاوية أفكر فيما يحدث. يبدوا أنني منهكاً جداً فلا أستطيع أن أبقي عيني مفتوحة أكثر من ذلك. أغمضت عيني قليلاً عل النوم ينسيني جوعي وقلقي. بل ربما فتحت عيني فوجدت نفسي بين زوجي وعيالي فأحكي لهم حلمي المزعج هذا
5
فتحت عيني. تلفت حولي. لا أري أحداً بجانبي. أين ذهب يا ترى؟ في الزاوية الأخرى من الزنزانة كان جسده مستلقياً لا يتحرك. بطنه منفوخ. يا إلهي لقد مات. يبدو أن الطعام كان فاسداً. هل أحاول أن أسعفه أم أحمد ربي أنه كان أنانياً ولم يدعني أشاركه الطعام. وقبل أن أتحرك نحوه ... فتح الباب ... مُدت يد إلى داخل الزنزانة ... إلتقطت جسد السمكة الميتة لخارج الحوض وأقفلت الباب خلفها لأبقى وحيداً في الحوض الصغير ... زنزانتي ... مرة ثانية

السبت، نوفمبر ١١، ٢٠٠٦

أطفال المقابر



هذه أوراق وجدتها ملقية على الأرض في أحد الشوارع. يبدو أنها مذكرات شخصية لأحدهم. قررت نشرها ربما قرأها أحد وعرف كاتبها

السبت 11 نوفمبر

فتحت عيني على صوت الهاتف يرن بجانب رأسي. لا أدري لماذا أضعه هنا وكلما رن وأيقظني من النوم شتمت نفسي ومن دعته نفسه للاتصال في هذا الوقت. مددت يدي ببطئ وكأنني أتمنى ان يكف الهاتف عن الرنين بعد أن يمل المتصل من الانتظار. يبدو أن المتصل ذو طاقة عظيمة على الصبر فلم يتوقف عن الرنين وكأنه يلح علي بالرد.
كانت والدتي على الطرف الآخر
أهلا يا أمي .. هل أنت بخير. سألتها ذلك كونها لا تتصل في مواعيد كهذه إلا في حالات طارئة
خالتك يا أبني خالتك ماتت
أي خالة . سألت وأنا أحاول أن أتصنع تأثر في صوتي كوني لا أهتم حقيقة للعائلة الكبيرة من أعمام وخالات وما يتبعهم من أبناء وبنات. بالنسبة لي هؤلاء امتداد أمام الأغراب فقط للتحدث عنهم أمام من يسألني إن كنت أقرب لفلان منهم. بالنسبة لي أخوتي وأخواتي وما يتبعهم من أبناء هم عائلتي. ووددت لو قلت أنني لا أهتم إن فكر أحد أبنائهم بي كما أفكر بأعمامي وخالاتي فالأمر سيان عندي

قطع صوت أمي تفكيري وهي تسألني إن كنت لازلت معها على الخط. المسكينة تحسبني لست معها وقد تشتت تفكيري حزناً بعد سماع الخبر. سألتها أي خالة ... ردت علي بصوت فيه بعض الحنقة " ألم أقل لك خالتي أم سعود ما بالك ألا تسمع"
يبدو أنها قد قالت لي من الذي توفى وأنا أفكر في علاقاتي بأعمامي. المضحك أو المؤسف في الموضوع هو أنني عندما سمعت بمن توفي كدت أن أقول لأمي ولماذا تزعجيني بموضوع لا يهمني أصلاً! إن كنت لا أبالي إن ماتت خالتي أخت أمي فهل من المفترض أن أبالي بموت خالة أمي؟ لا أعتقد أن الإجابة لها داع هنا

قفلت الخط بعد أن وعدتها بان أذهب للمقبرة حالاً فمراسم الدفن سوف تكون هذا الصباح. كم اكره الذهاب للمقابر. يبدو أن هذا الكره له علاقة بطفولتي عندما كنا نعيش تحت خط الفقر بجانب أحد المقابر ولم اعرف كطفل غير هذا المكان لألعب فيه. بينما عاش أخوان وأخوات أبي وأمي في مناطق راقية ولم يفكر احد في زيارتنا

لي في المقابر ذكريات اعتبرها الآن حزينة بينما كانت في وقتها سعيدة. أليس هذا ما يقوله الفقراء ليسلوا به أنفسهم بأن تلك الأيام هي أجمل الأيام وأن الأغنياء ليسوا براحة الفقراء. لا أعرف من بدأ بهراء كهذا! أقسم أنه أحد الأغنياء الذين لم يودوا أن يحسدهم الفقراء على ما هم به من نعمة فقال لهم أنه يعيش في هم وغم وكم يتمنى أن يعيش براحة بال الفقير الذي لا يفكر في الأموال وما تأتي به من غث للبال. مضحك منطق الفقراء السذج اللذين صدقوا مثل هذا الهراء بل ربما هم يستحقون أن يعيشوا بهذا المستوى جزاءاً بما كانوا يصدقون من أكاذيب بسيطة. ألم أقل أنني اكره المقابر لأنها تعيد لي ذكريات أحاول أن امحيها من ذاكرتي

ارتديت ملابسي بعد أن أخذت حماماً سريعاً. خرجت من المنزل على عجالة لألحق مراسم الدفن فكوني من أفراد العائلة فلن يغفر لي أحد تأخري. وفي الطريق إلى المقبرة بدأت أفكر في تلك الخالة التي كنت صديقاً لحفيدها الذي يقربني سناً. تلك العجوز التي كنت دائماً ما أراها تأتي لزيارة والدتي. وعلى الرغم من أن والدتي لم تكن تزورها أبداً بداعي الانشغال بأمور الحياة، إلا انها والحق يقال لم تقطع صلة الرحم. يبدوا أنني أتبع والدتي في علاقاتي بأهلي. بل تلك الخالة هي الوحيدة التي كانت تسكن قربنا أيام المقابر كما أسمي تلك الفترة ولم تقطع عادة التواصل منذ ذاك الوقت

خالة والدتي لديها ولد واحد من زيجة يتيمة سابقة لم يكلل لها النجاح. ولدها له ولد وبنت من زيجة سابقة لم يكلل لها النجاح! كدت أن أضحك من توالي الأمور في تلك العائلة فحفيدة تلك الخالة لها ولد من زيجة سابقة! وحده الحفيد، سليمان، من نجا على الأقل من كلمة الزيجة السابقة حيث أنه لازال متزوجاً حتى الآن. أدعو الرب أن يبقيه في سعادة مع زوجه وعياله فهو صديقي قبل أن يكون قريبي ولي معه صولات وجولات عديدة منذ أيام الطفولة حتى مرحلة الشباب

وصلت للمقبرة وإذا بأعداد كبيرة من المشيعين الذين جاءوا إما لمعرفة سابقة بأحد أفراد العائلة أو لكسب الأجر وأنا أشك في وجود أحد في هذا اليوم الحار طلباً للأجر فجميعهم ربما مثلي هاتفتهم أمهاتهم هذا الصباح لتأمرهم بالذهاب للمقبرة. وقبل أن أترجل من سيارتي خفضت صوت المذياع الذي كان يصدح ولو بصوت معقول بأغاني من المؤكد أنها لا تتناسب مع المكان أو المناسبة ففعلت ما فعلت من باب الكياسة واحتراما للمكان وليس لمن جئت من اجلها

أمضيت الدقائق القادمة في تحيات وعتابات مع أبناء عمومة لم أراهم منذ سنين. كان كل منا يلوم الآخر على عدم التواصل بينما الحقيقة في داخل النفوس هي أننا جميعاً لم نهتم أو نتأثر من عدم التواصل لكننا نقول ما نقول من باب المجاملات الاجتماعية التي فرضتها علينا التقاليد البالية. كان المنظر لا يوحي بحزن لفقيد من العائلة. ربما الأمر له علاقة بسن المتوفيه فقد جاوزت التسعين من العمر والجميع هنا أتى لتأدية واجب فرض عليه لا أكثر. ربما كنت أنا أكثر المستاءين من وجودي هنا فلم أكن يوماً قريباً لأحد من عائلتي كما أسلفت ولم أؤمن يوماً بخالق أو مخلوق. لا أقول هذا الكلام لأحد خشية أن يتم هدر دمي فمن أعيش حوله لازال يفكر بتقاليد دينية بالية ليس لها مكان الآن في هذا العصر، ربما كانت ذات قيمة يوما ما في عصر ما لكنه وبكل تأكيد ليس عصري أنا

صاح أحدهم بصوت عال بأنه قد حان موعد الصلاة على المتوفاة. دلفنا للمسجد الصغير في المقبرة وأتممنا الصلاة على روح خالة أمي والتي بالمناسبة كنا أناديها بخالتي. لا ادري لماذا كنت أحس بعاطفة أكثر وأنا أنادي العجوز التي تقوم على خدمتي في بيتي بخالتي ولم أشعر بمثل تلك العاطفة مع تلك الخالة

كان أبن المتوفية هو الوحيد الذي بان عليه التأثر الواضح. يبدو أن وجوده حول أمه طوال الوقت تلك السنين جعل فراقها أصعب عليه من أي أحد آخر. وجدت نفسي لا شعورياً اتجه إليه لمواساته في والدته. تصنعت بعض الحزن وأخذته في أحضاني. وفجأة بدأ في البكاء على كتفي. أحسست أنني قد وضعت نفسي في موقف أستحقه فليس هناك من أحد ألومه غير نفسي، فأنا من ذهب إليه ليواسيه بينما كان يجب أن أنتظر قليلاً واذهب إليه وسط مجموعة من المعزين. بدأت أحس برطوبة دموعه على كتفي. وكدت أن أدفعة فليس هناك ما اكرهه أكثر من إفرازات احد على جسدي، ولو كان هذا الشخص يبكي والدته. تلفت عن يميني وشمالي إلا أن إلتقت عيني بعين سليمان فأشرت له بعيني إن تعال وخذ والدك من على كتفي. وهذا ما فعله

وما هي إلا لحظات حتى تم حمل النعش على الأكتاف لأخذ المتوفية والبدء بمراسم الدفن. كنت أشعر بإنقباض شديد في صدري، فهذا الشيئ الذي أتحاشا القدوم للمقبرة من أجله. لا أدري إن كان خوفي من أموت قريباً أو عدم التزامي بأي شيء حث الشرع والدين على الالتزام به وربما الاثنين معاً. منظر الميت وهو ينّزل في القبر وصوت ملقّن الشهادتين وهو يلّقن الميت ولحظة البدء بإهالة التراب هي أسوأ المناظر. وربما منظر القبر والجميع يمشي بعيداً ليتلاشوا في ديناهم ويبقي وحيداً تحت التراب يساويه بالسوء هو ما يجعلني أنسحب ببطئ لحظة البدأ بإنزاله. الفرق الوحيد اليوم هو أنني لن أستطيع الهروب كوني من العائلة. ربما كان علي أن أترك الهاتف يرن هذا الصباح ... لو كنت أعلم

كنت سارحاً بفكري قبل أن يقطعه وخزة من الشخص الواقف بجانبي والذي إكتشفت لاحقاً أنه أجد أبناء عمومتي، كان يريد جلب إنتباهي للموقف الحاصل وهو عندما طلب الملقن من محارم المتوفية أن يقوموا بإنزالها. وعندما لم يتقدم غير حفيدها وظل ولدها الوحيد بعيدا غير قادر على السيطرة على مشاعره، إلتفت الجميع نحوي كوني من محارمها بحكم القرابة. وددت بيني وبين نفسي لو أن الأرض إنشقت لتبلعني وتخلصني من هذا المأزق. إنتظرت لثوان وعندما لم تنشق الأرض علمت حينها أنه لا من مفر سوى الإنصياع لهم. تقدمت بخطوات متثاقلة نحو القبر. وقفت على حافته. كان الملقن و سليمان في الداخل. نظرت إلى المكان فعلى الرغم من ترددي على المقابر، لم أرى في حياتي قبر بهذا القرب فكنت دائما أقف بعيداً كما أسلفت. لازلت حتى وأنا على الوشوك أن انزل اتمنى أن يقفز أحدهم من حولي ويقول لا تبالي دعني عنك في هذه، لكن لم يحدث شيئ من هذا القبيل، الم أقل إنني لا أحب تلك العائلة

نزلت وجلست على الأرض بجانب خالتي بعد أن أنزلناها. المكان ضيق، ووددت أن أقول أنه ضيق كالقبر كما أقول دائماً لكنه هو القبر بعينه وضيقه. وفجأة حدث شيئ لم يكن في حسباني أو خيالي. سأل الملقن عما إذا تم وضع شيئ ما ،لا اذكر ما هو الآن، داخل الكفن تحت رأس خالتي. كان الجواب من أحدهم بالنفي فإستشاط الرجل غضباً وطلب أن يؤتى بذاك الشيئ. ولما أجيب طلبه، طلب أن تتم غطية القبر بملاءة حتى لا تنكشف المرأة على الرجال. هل ذكرت أنها كانت قد تعدت التسعين من العمر! وهل يلام المرء عندما ينتقد تلك التقاليد البالية! ليس لي حتى تخيل المنظر داخل القبر مع الميتة وأنا وسليمان والملقن. أصبح القبر مظلماً بالشيئ الكثير من الملاءة.أحسست أني لن أخرج من هنا وأن تلك نهايتي. لم أحس باني مت مثل تلك اللحظة
ثم بدأ الملقن بتلقين الشهادة وعندها طلب منا أن نهز جسدها بأيدينا. كان هذا من أصعب المواقف التي مررت بها، فأنا الذي أخاف من القبور وجدت نفسي داخل قبر مغطى وأهز جسد الميت الذي لم يمضي على موته سوى سويعات! لا أعرف مغزى هز الجسد فإن كان الميت لا يسمع هل سوف يسمع إن إهتز جسده ... لا أعرف
كانت يداي ترجفان وقلبي يخفق بشدة خوفاً أو رهبة من الموقف لا يهم أيهما الحقيقة. كنت في الطرف ناحية القدم والحفيد بيني وبين الملقن. كنت أحاول ألا انظر للجسد، فأشحت بوجهي للناحية الأخرى وإذا برجل جالس بجانبي. قفزت من مكاني وأصدرت صرخة. تلاقت نظرتي مع سليمان الذي يبدو انه كان شاهد ما شاهدت. نظرت الرجل مرة أخرى فلم يكن هناك احد. بدأت تصدر أصوات من خارج القبر تتساءل عما يحدث وهذا بالضبط ما سأله الملقن فأجبته أنني هيئ لي رؤية عقرب. إبتسم رغم الموقف والمكان الذي نحن به. كنت أريد الخروج من هنا في أسرع وقت. وهذا ما حدث، حيث قفزت خارجاً ما أن قال الرجل أنه يمكننا الخروج. أسرعت الخطى نحو السيارة ولم أبقي لإتمام المراسم فكل ما كنت أفكر فيه الآن هو ذلك الرجل في القبر. ترى من هو وما ذا كان يفعل معنا ولماذا كان ينظر لي هكذا. لم تكن نظراته ودودة. لا أعرف كيف وصلت إلى منزلي ولم أجد نفسي إلا في الحمام تحت الماء الساخن. كنت أحس أنني لست على ما يرام، تقيأت كثيراً. وكيف أكون على مايرام وقد حدث لي ما حدث. فكرت فيمن يمكن أن أقول له ما حصل. لا يوجد أحد غير سليمان فلقد كان هناك وكانت نظراته توحي لي بأنه قد شاهد شيئاً هو الآخر. لا أدري لماذا أقول توحي بل أكيداً أنه شاهد بأم عينه ما رأته عيني. ذلك الرجل الذي لم يكن شاباً أو شيباً بل بينهما، ولم تدل هيئته على شيطنة أو رهبنة بل بينهما أيضاً. كان لابساً ملابس موقرة وذو شيبة ونظرة وديعة. غرقت بفكري فيمن رأيت حتى دلفت لفراشي وما هي إلا لحظات إلا وجدت نفسي غارقاً في النوم

الأحد 12 نوفمبر

هذا العصر ذهبت إلى بيت جدي الكبير لتلقي العزاء في خالتي. جلست في طرف القاعة. كنت أنظر لسليمان الذي كان يجلس في الطرف الآخر. كنت اريد أن ألفت إنتباهه لأسأله عن أحداث يوم أمس لكنه للأسف كان مشغولاً عني. كان جالساً بجوار والده في بداية الصف فوراً بعد جدي الذي أعتقد أنه جاوز المائة من العمر بمائة أخرى. يبدو أن الأثرياء يعمرون أكثر من غيرهم لأسباب تعتمد على من تسأله، فالأغنياء يرجعون ذلك لمدى حرصهم على الأنظمة الغذائية الصحيحة وعدم تورطهم في عادات مضرة بالصحة. أما الفقراء فيقولون بطريقة فيها الكثير من التشفي والحقد أن الرب يمد باعمارهم ليعذبهم أكثر في الآخرة. ولو سألتني لقلت أن الفقراء سفهاء في تفكيرهم كالعادة

جلست أتجاذب أطراف الحديث مع من جلس بجانبي من أفراد العائلة بين قيام وقعود لتلقي العزاء. كنت أجول بنظري في وجوه الجالسين فلربما وجدت وجهاً مألوفاً بينهم. نظرت للجهة المقابلة لي وإذا بالرجل نفسه يجلس مقابل لي. ذلك الرجل الذي شاهدته بالقبر يوم أمس. كان ينظر لي بنظرة غريبة. نظرت إلى سليمان وإذا به ينظر للجهة المقابلة له لكنها عكس الجهة التي كان الرجل فيها. كان شاخص البصر ووجهه محتقن بحمرة دمه. خرجت مسرعاً وإذا بسليمان يلحق بي، أوقفني وقال لي بصوت مخنوق "الرجل هنا" سألته أي رجل يقصد " أنت تعرف أي رجل أقصد ... إنه هنا يجلس أمامي في الجهة المقابلة لي" كدت أسقط على الأرض لا لأنه يرى الرجل الذي أراه لكنه يراه في الجهة المختلفة عني ... أي أننا الأثنين كنا نرى نفس الرجل يجلس في جهتين! ماذا يحدث لنا. قلت له أأنت متأكد مما رأيت. نظر إلي بنظرة غضب قائلاً أنني اعرف أن ما يقوله صحيح ولربما رأيت مثل ما رآه ولهذا خرجت مسرعاً أتلفت حولي كالمجنون. كان محقاً فيما قاله. لم أرد عليه بأكثر مما قال وتركته ومضيت لمنزلي

ألإثنين 13 نوفمبر

فتحت عيني لأرى ذلك الشخص جالساً على سريري ينظر إلي. صرخت فيه بأعلى صوتي محاولاً إذعاره لكنه لم يبين أدنى ردة فعل. وبهدوء شديد قال لي: ربما تريد أن تعرف لماذا أنا هنا
قلت: بالطبع أريد أن أعرف وأريد أن أعرف أكثر من أنت وكيف دخلت هنا
قال: إذا لنبدأ منذ البداية. أنت و صديقك كنتما دائماً ما تلعبان في المقبرة. صحيح؟
لم أرد أو أبدي أي شيئ بينما هو أكمل حديثه دون إنتظار لجوابي
عندما تم دفني وفي نفس اليوم أتيت أنت وصديقك ودنستما قبري. ما فعلتموه كان كبيراً جداً
قاطعته قائلاً: ماذا تقول ... أي قبر وأي تدنيس تتكلم عنه
قال: ربما لا تعلم ما فعلت وربما لا تتذكر أو لا تريد أن تتذكر. ما فعلته أنت وهو كان في نفس الوقت الذي بدأ فيه حسابي وقد كان فعلكم كبيراً أنني منذ ذلك الحين وأنا أنتظر اليوم الذي أنتقم منكم. لكنني لم أقدر أن أخرج لكم حتى تئتوني بأنفسكم. بل تكوني تحت الأرض معي وهذا بالضبط ما فعلته أنت وهو وما أن تمت تغطية القبر حتى أصبحت أنا وأنتم تحت التراب وجاء وقتي لأخرج لكم
قلت: وما تريد منا الآن فأنت خارج قبرك فأتركني وحالي أرجوك فلقد كنت طفلاً عندما فعلت ما تدعي أنني فعلته وعلى الرغم من أنني لا أعلم ما تتكلم عنه فأرجو أن تقبل إعتذاري
قال: لقد فات أوان الإعتذار والآن جاء دور الإنتقام. سوف أجعل الأمر بسيطاً عليك. كل ما عليك فعله هو إعطائي جسد صديقك لأعيش به بقية عمره
قلت: لم أفهم كيف أعطيك جسده لتعيش به
قال: تقتله بيدك ثم أدخل بروحي في جسده في تلك اللحظة التي تخرج روحه من جسده
قلت: أنت مجنون ... مجنون ... بالطبع لن أقتله ... لن أقتل صديقي ... أنت مجنون ... أُخرج من هنا
قال: هل تعرف ما قاله لي من تصفه بصديقك هذا عندما عرضت العرض نفسه؟ لو عرفت لما قلت ما قلته الآن
قال كلمته متجهاً ناحية الحمام الذي دخله وأختفي هناك

جلست أفكر فيما قاله لي. كان الموقف خيالياً لا يصدق. فكيف يكون شخص ميتاً طوال تلك الفترة ليأتي لي الآن يريد أن ينتقم! ولماذا الآن ولماذا ينتقم عن طريق قتل نفس وكيف، إذا سلمنا أنه سوف يعيش بنفس الجسد، كيف له أن ينتقل وهل سيعيش عيشة صاحب الجسد أم ماذا؟ أسئلة محيرة لا أجد لها جواب. لكن الجواب الذي أعرفه هو أنني لن أقتل قريبي وصديقي الوحيد ... لماذا أجبت هاتف الصباح

الثلاثاء 14 نوفمبر

أليوم حدث تصرف غريب من سليمان، فطوال فترة العزاء كان صامتاً يرمقني بنظرات غريبة. كان شارداً مقتضباً في ردوده مع الجميع وخاصة معي. حاولت أن أفتح معه حديث حول ما حصل لي لكنه لم يكن مستعداً لسماع أي كلمة مني. بدت ردوده مريبة بعض الشيئ خاصة عندما سألته بطريقة مباشرة إن كان هذا الشخص قد زاره وإن كان فعل فهل طلب منه شيئاً بعينه. رد علي بطريقة أشبه ماتكون بالآلية بأنه لا يعرف عن ماذا أتحدث
ترى هل نجح في قلب كيان سليمان ضدي؟ هل من الممكن أن يفعلها لينقذ نفسه بالتضحية بي؟ أسئلة كثيرة تدور في ذهني جميع إجاباتها ليست لدي
لا أدري لكني بدأت أتقين شيئاً فشيئاً أن سليمان يدبر لي أمراً وكيف لا وهو كان ينظر لي بنظرات تشيع بالحقد ... هذا الحقير يريد قتلي ... إنه لا يختلف عن الآخرين من عائلتي جميعهم حثالة ... الكلب نسى كل ما فعلته من أجله. هل نسي أنني نزلت لقبر جدته من أجله؟ أبهذا يكافئني ... سافل كأبيك تماماً

نادتني والدتي لتخبرني بأن سليمان قد أحضر بعض الطعام لي لكنه لم يقبل أن يبقى لنأكل سوياً بداعي العجلة لإنشغاله بأمر ما. كدت أجن عندما سمعت ذلك فيبدو أنه قد حاك مؤامرته بحنكه فجاء ببعض الطعام المسموم ليقتلني أبن الكلب. الحمدالله الذي ألهمني الخروج من حجرة أخي قبل أن يأكل أحد أخوتي الصغار أو والدتي فلقد كان الجميع على وشك البدء بالأكل عندما قمت برفس الطاولة بما عليها من طعام. لا أنكر أن الأمر كان أشبه بالجنون لكنني لم أقدر أن أفعل غير ذلك. تحملت غضب والدتي ونعتها لي بالحيوان الكافر الذي يرفس نعمة الخالق برجله وأن حسابي عنده لشديد لكني لم أهتم لأي من هذا. بل الشيئ الوحيد الذي أريده الآن هو كيف أتخلص من الحقير

عقدت أمري بأن أقوم بمباغتته الليلة فأستدرجه إلى أحد المناطق البرية عن طريق أحد الأصدقاء المشتركين بعد إيهامه بأنني أريد أن أتصالح مع صديقي بعد خلاف بسيط حدث بيننا ثم أطلب من هذا الصديق أن يمضي لحال سبيله قبل أن يصل سليمان فأقوم بالإجهاز عليه قبل أن يدرك ما يحدث. وسوف أستعين بسلاح والدي الذي يعلم الجميع أين يخفيه والمسكين يتصور أنه لا أحد يعرف مكانه. سوف آخذ سكين من المطبخ كإحتياط فلربما لم أستطع إستعمال السلاح لأي سبب كان. تلك نهايتك يا سافل. لم أتخيل أنني سوف أفكر بتفكير هكذا قبل يوم أمس ولكن عجيب ما يمكن أن تكتشفه لحظة أن تتمعن في أفعال من حولك. يا إلهي كم كنت غبي بإعتباره أعز صديق قبل ان يكون أقرب قريب

الأربعاء 15 نوفمبر

البارحة كانت ليلة من اصعب الليالي التي مرت علي. حقيقة لم أتخيل أن أرى ما رأيته. أن يقوم شخص بقتل قريب له من لحمه ودمه في سبيل شخص لم يراه إلا قبل يومين أو أكثر بقليل فهذا الذي لم أتوقعه. أعترف أن الصراع الذي حدث البارحة سوف يبقى في ذهني إلى أن أموت وسوف تكون آخر كلمات قالها القتيل ترن في أذني ما حييت

هذه أول وآخر مرة أكتب فيها في هذا الكراس قبل أن أتخلص منه. لست أدري لماذا أردت أن اكتب تلك السطور. ربما أحسست بتأنيب الضمير من عدم إنهاء تلك المذكرات التي شرع صاحبها في تدوينها قبل أن يموت وأدخل في جسده لأعيش به من جديد، فقررت أن أنهي ماكان يود أن يقوله هنا. أجزم أنه أراد أن يكون هو المنتصر على قريبه وصاحبه ليكتب ويكتب لكنه كان مخطأً فصديقه سليمان كان اقوى منه وأسرع على الرغم من العتاد الذي أحضره معه. عموماً لا يهمني الآن من قتل من، فالمهم عندي هو أنني أصبحت أملك هذا الجسد الغض من الآن وصاعداً