الجمعة، يوليو ٠٢، ٢٠١٠

رسالة أمستردام - مالم يقله همام

نظراً لعدم إكتمال الجزء الأخير من القصة قررت نشر هذه الرسالة التي لم ترسل
.
.
ملاكي
.
أكتب إليك من أمستردام عاصمة الورود والطواحين. تلك العاصمة ذات التاريخ العريق. تاريخ امتد إلى أقاصي الأرض. مشارقها ومغاربها دون أن ينسى شمالها وجنوبها. على الرغم من كبر سنها لكنها لازالت جميلة. بينما غيرها أصبحن مجرد عجائز شمطاوات
كلما وطئت قدماي أحد تلك البلاد التي لك أن تشم عراقتها في أزقتها أشعر بالرهبة. رهبة كون تلك الأزقة لو سمح لها الزمن لأفردت حكايات كثيرة. ممتع منها ومشمئز. كما هي في جميع المدن القديمة التي حافظ عليها أهلها دون الحاجة لتدميرها بحجة بناء مدينة عصرية كما هو الحال في مدننا. تكاد تقرأ أسطر كتبها رجال قبل مئات السنين مكتوبة على كنائس ومباني قديمة بنيت بطراز معماري فريد. كما هو الحال في مدريد وبرشلونة وفيينا وغيرها من المدن التي تفننت بتخليد تاريخها عبر صروح متميزة
.
قررت ان أستغل وجود ساعتين من الفراغ قبل الإجتماع القادم الذي من أجله حضرت لأقوم بجولة في المدينة. جولة على الأقدام أتخلص فيها من تعب الجلوس في الطائرة. يبدو أن كبر السن بدأت تظهر آثاره بقوة. آلام في أسفل الظهر. آلام في القدمين. نسيان. شعر بدا يختفي منه اللون الأسود. عيون بدأت تذبل. هذا أنا اليوم
.
تجولت في أنحاء المدينة ووجدتها ساحرة. القنوات المائية والقوارب تنتشر في كل مكان. الدراجات الهوائية تكاد تكون أكثر من السيارات. الهولنديون شعب يحب البيئة. يحب الورود. يحب الحياة. يحب الطبيعة. أمستردام تشبه فتاة فارعة في الطول ناهدة في عمر الورود مليئة بالحيوية تلبس فستان لونه برتقالي. تحمل الفتاة سلة ورد لونها برتقالي. سلة الورد مليئة بورود عطرة لونها برتقالي. تناغم عجيب للألوان رغم وجود لون واحد. تنظر للفتاة التي تحمل سلة بها ورود ولا تملك إلا أن تبتسم
.
وجوه ذات سحنة عربية بين محلات بقالة عربية في كل مكان. اعلان للكوكاكولا باللغة العربية على واجهة أحد تلك المحلات. لا أدري لماذا ساورني شعور بأنني سأرى لافتة تقول أن الأسلام هو الحل في أحد الشوارع. أرى الحجاب منتشر بكثرة على رؤوس فتيات يبدو أنهن أبناء المهاجرين الذين جاءوا من سنوات لطلب العيش. تماماً كهمام الذي جاء دون شهادة أو حرفة لأمستردام ومع ذلك نجح في شراء مطعم والزواج من الفتاة الجميلة التي احبته وبالطبع هزم الرجل اليهودي في النهاية
.
وأنا أمشي وجدت نفسي فجأة في منطقة علمت فيما بعد أنها تدعى المنطقة الحمراء. وجدت نفسي في منتصفها دون سابق إنذار. محلات تبيع أدوات جنسية. فترينات المحال تعرض البضاعة دون حياء أو خجل. رجل مثلي مشى في اقصاع الأرض يطيح الخجل بنظرى للناحية الأخرى. ألتفت حولي لأرى إن كان أحد قد لاحظ خجلي المباغت. لا أحد يبالي بأحد هنا. البعض يعاين البضاعة دون خجل والبعض الآخر يلتقط الصور التذكارية بجانب المعروضات وهم يتبادلون النكات
بجانب تلك المحلات تجد العديد من المطاعم وكأنما من جاء لتلك المنطقة جاء ليتسوق ثم يقصد أحد تلك المطاعم ليقتل جوع في بطنه. العديد من تلك المطاعم تعلن أنها تقدم الأكل الحلال. الحلال والحرام يقفون كتفاً بكتف كالبنيان المرصوص. أجد هذا التناقض مقزز. هل وصل الحال أن نتاجر بحلال الطعام ونغض النظر عن الحرام الآخر! ترى هل كان همام يأكل هنا عندما جاء لأمستردام؟ ربما
.
دون خجل ودون أن يرف لهم جفن ... يدعوني العاملين العرب في تلك المطاعم للتفضل بالدخول وطلب الأكل الحلال. أبتسم بإشمئزاز وأنا ألمح لافتة الأكل الحلال التي يتقدما الفلافل وهي مكتوبة بعدة لغات ... فلافل حلال يا ملاكي. كدت أجربها فقط لأعرف الفرق. أتجاهل العمال واحداً تلو الآخر بصمت رغم أن عقلي يطلب مني أن أقول شيئاً. ربماً شيئاً يحمل الكثير من التقريع. طعام حلال وسط بحر من الحرام. وما زال همام يتاجر بعقول الشباب الحالم بمستقبل أفضل في أمستردام
.
لم تكن تلك المفاجأة الوحيدة لي في تلك المنطقة الحمراء المليئة بالمفاجئات. فقد تبين لي أنه من المسموح به بيع وتناول نبات الماريجوانا المخدر. مقاه ومحلات تفرد اعلانات تدعوك لتجريب العديد من الأنواع. كل ما عليك هو أثبات أن سنك يطابق الحد الأدنى المسموح به قانونياً. دخلت لأحد تلك المقاه من باب الفضول. شممت رائحة ذكرتي بفترة سابقة من حياتي كنت أود نسيانها. هي مرحلة الحياة قبل وجودك أنتي في حياتي. انتابني شعور غريب وأنا بالداخل. لم يلبث هذا الشعور أن تحول إلى شعور مريح مرح وسط ضحكات على الفاصل الكوميدي الذي يقدمه النادل. أسارع بالخروج لأنني أعرف أن الفاصل الكوميدي هو فاصل بليد والشيئ الوحيد الذي يجعله ممتعاً هو تأثير تدخين الماريجوانا. أخرج قبل أن يضحك علي أبليس الخناس ويجعلني أجرب النبتة البريئة. أبليس اللذي يلاحقني بصورة مستمرة منذ سنوات طويلة كما يلاحق عزازيل هيبا. أنا وإبليس أو عزازيل لنا تجارب عديدة. أغلبه مرة ويغلبني مرات. ربما حكيت لك عن إحداها يوماً ما
.
أهرب من هذا كله لأرى فتيات صغيرات بالسن لا تتعدى أي واحدة منهن التاسعة عشر يقفن في فترينات محلات وهن يرتدين ملابس فاضحة. جنباً إلى جنب تجد فترينات أخرى بها نساء دميمات سمينات. نساء وفتيات جئن من مختلف أنحاء الأرض. كل فترينة خلفها غرفة صغيرة. تقوم كل إمرأة بتسويق نفسها فهي البضاعة وهي البائع في نفس الوقت. رجال يحومون حول المحال كما الليث الذي يحوم حول قطيع من الغزلان يفحصهم ليختار إحداها لعشاءه. شبان مراهقين ربما كانوا يريدون بدء حياتهم الجنسية مع إمرأة لن تضحك على رهبتهم عندما تنفرد بأحدهم للمرة الأولى في حياته. فتيات ربما كانت لهن أحلام بمستقبل أفضل بكثير مما هن فيه الآن. أحلام كانت قبل أن يكتشفن أن الحياة تلوك الأحلام وتبصقها في الوجوه ثم تعود لتطالبك بثمن البصقة التي لا تملك ثمنها في معظم الحالات فتغدوعبداً بيدها. هل فكرت إحداهن وهي تلعب بدميتها أنها سوف تصبح تلك الدمية التي تتبادلها الأيدي وهي عارية فقط تطلب القليل من المال والذي مهما كثر يبقى قليل مقارنة لما تعرضه
وتظل الفترينات بجانب الأكل الحلال. وتبقى محلات الجنس بجانب الفلافل المذبوحة حسب الشريعة السمحاء. ويبقى همام الوحيد الذي ملك أمستردام في الأحلام والأفلام
.
أعود للفندق منهكاً مشمئزاً مما رأيت. كنت حزين للغاية. المدينة التي أحببت قبل ساعتين كرهتها قبل ساعة. ربما كان علي ألا أدخل تلك المنطقة. ربما كان علي أن التزم بالطرق الرئيسية فقط دون الطرق الجانبية. ربما يجب ألا آخذ الأمور بتلك الحساسية. لا أدري. كل ما أعرفه أنني لا أحب تلك المدينة كثيراً الآن
.
لم أسمع منك منذ فترة
.
تجاهلك لي في الفترة الأخيرة أصبح يوترني. غيابك من حياتي دون سبب هل له علاقة بما قلته آخر مرة؟
.
أكتب هذا وأنا في المطار متوجهاً إلى لندن
.
كيف أنتي
.
مرحباً
.
أنا

الأحد، مايو ٠٩، ٢٠١٠

أسرة من خمس أفراد - الجزء الثاني

منزلنا الجديد عبارة عن فيلا رحبة واسعة. حقيقة بهرت من منظرها الخارجي عندما رأيتها للمرة الأولى. الواجهة مكسية بحجر يميل لونه للإحمرار يذكرك بلون قرص الشمس وهي تميل لوداع اليوم. عندما تقرر الأرض أنها قد ملت النور بما فيه من علنية. تريد أن تهرب لسواد ليل تبيت في أحضانه بعيداً عن كل من هناك



سور الفيلا منخفض تتوسطه بوابة حديدية راقية. بين البوابة والفيلا نفسها حوش مكسيٌ بسيراميك خشن ذو لونين يخيل لك أنك تنظر للوحة شطرنج. ترى هل فكر من قرر هذا الكساء بما تعنيه تلك اللعبة الماكرة أم أنه فقط أراد الشكل وليس الجوهر الذي يجب أن نبحث عنه كما يقول إمام الجامع



الفيلا عبارة عن دورين وسرداب. مقارنة بما تعودت عليه سابقاً يعتبر هذا قصر ... ثم ماذا يعني وجودي في منزل كهذا؟
.
يعني أن سوف يكون لي خصوصيتي للمرة الأولى في حياتي. غرفة لي وحدي أقفل الباب بالمفتاح إن شئت. لن يدخل أحد أخوالي أو أعمامي دون إستئذان. جدتي التي أحب أن لا أحب ... لن تأتي لتعبث بمحتويات حياتي وهي تبحث عن محتويات حياة أمي

.

مرات ومرات كنت أحلم باليوم الذي لن أرى فيه بيوت جدودي التي عرفتها من دلالات عديدة ... عندما لا يكون هناك مساحة كافية لسرير فيتم تعويض عن ذلك بالنوم على الأرض. فقط مرتبة تحول بين جسدك والأرض التي منها وإليها نعود كما يقول إمام المسجد
.
عندما تريد تهرب من الجميع فلا تجد مكاناً تنزوي إليه وحدك
.
عندما كل ما تريد هو أن تجد مكاناً لوضع حاجياتك الخاصة ولا يجدها متطفل دون أن يبحث عنها
.
عندما تشارك الجميع الماء الساخن قبل أن ينتهي وسط وقتك أنت ... سوف يكون لي حمامي الخاص. لا داعي لإستعجال كون هناك من ينتظر دوره
.
عندما تريد أن تتنفس هواء دون مشاركة أحد. الزنزانة شيئ موحش. على الرغم من أنني لم اجربه بحالته المنفردة لكنني أجزم أنني أعرف شعور من فعل. هل هناك ثمن لهواء طلق ... لا أعرف ... بل ربما ... بل يجب
.
لن يعرف معنى ما أقول سوى من عاش في بيئة مزدحمة كعلبة سردين تفوح رائحة السمك منها لمسافة بعيدة
لم أحب السردين في حياتي ربما لأنني أجد نفسي كسمكة في علبة صدئة

.

.

أبي ينظر لي بإبتسامه فخر. يربت على رأسي وهو يقول ... ألم أقل لك أن الغد أفضل من اليوم وحتماً أفضل من قبله
أراهُ على حق هذه المرة. بدأت أفهم مقولته للمرة الأولى في حياتي. هذا ما كان يقصده. غريب كم نأخذ من الزمن لنكتشف حقيقة بسيطة نراها بوضوح أمام أعيننا. ربما أحتجنا في النهاية لعلماء الدين. غشاوة تزال بذكر الله ... هذا ما قاله لي إمام المسجد القريب من بيتنا البارحة

كان يوعد والدتي بأن الفرج على بعد بيعة أسهم في الوقت المناسب. سنوات مرت ولم يتوقف عن ترديد هذه المقولة حتى أصبحت إسطوانة مشروخة تعيد نفسها كل مرة. مقطع واحد من أغنية تحب أن تسمعها فيقرأ مشغل الإسطوانات فكرك فيقرر أن يعيدها عشرات المرات كل يوم. تسمعها بحب أول مرة. أول خمسين مرة تتفاعل معها. يخفت حماسك عندما تسمعها للمرة المائة. لا تبالي بها عند المرة المئتين. تكرهها عند الثلاثة مائة. تود أن تكسر الجهاز لأن سماع المقطع بدأ يصيبك بالغثيان. والدتي بدأت تصاب بالغثيان من سماع تلك الجملة. بيعة أسهم في الوقت المناسب جملة أصبحت حقيقة. والحقيقة هنا تعني الفرج. والفرج يعني بيت. والبيت يعني نهاية الشتات

.

.


أمي تقتات على فرحة التجهيز للمستقبل. لها نظرة متفائلة لا تنتمي لزمنها. لسنوات عديدة ظلت تشتري وتخزن لهذا اليوم. أواني منزلية. شراشف. أطقم تقديم. كل هذا تم التمهيد له خصيصاً لهذا اليوم. حتى هي نفسها ربما كانت قد اشترت شخصية جديدة ابقتها مخزونة في داخلها لهذا اليوم

.

في بعض الأحيان كنت أراها تهرب مما هي فيه من لحظات عصيبة تمر بها لتختبئ في عالمها الخاص. هكذا كانت تجد راحتها في تجهيز مملكتها القادمة. لم يكن والدي يطيق هروبها الدائم لما كان يترتب عليه من شروخ لميزانيته الخاصة لكنه لم يكن يقدر على مواجهتها بذلك لعلمه بأسباب حاجتها لمثل هذا الهروب

.

.

عندما تدخل البيت تجد هناك صالة واسعة فسيحة تنتظرك. في وسط الصالة سلم لولبي واسع يذكرني بالأفلام القديمة التي تشاهدها والدتي طوال الوقت. الأفلام العربية المصرية على وجه التحديد عندما كانت الأفلام أفلام ومصر مصر كما تقول والدتي وهي تشاهد فلم دعاء الكروان للمرة الألف

.

السلم اللولبي الواسع يقود إلى الدور العلوي من المنزل. الدور العلوي عبارة عن أربعة غرف نوم مع غرفة معيشة تختلف عن تلك التي في الدور الأرضي

.

تقول أمي أن تلك الغرفة هي لنا لنجتمع ونشاهد التلفزيون وخلافة والدور الأرض وقاعاته هي للضيوف فقط. كنت أجد أن الأمر مضحك وخيالي ومستغرب في نفس الوقت. فنحن مازلنا نحن. وجلدنا هو نفسه لم يتغير. لكن يبدو أن جلد التمساح بدأ يتآكل خلال يوم واحد فقط وبدأ جلد جديد يظهر أسفله. كل ما في الأمر أننا إنتقلنا لمنزل أكبر وفجأه أصبح لنا غرفة معيشة تختلف عن غرف إستقبال الضيوف. نحن يا من كنا نعيش في غرفتين هما غرف المعيشة والطعام والنوم ومكتب ودراسة وإستقبال الضيوف المفترضين في آن واحد. أمي تقول أنها سوف تقوم بدعوة صديقاتها الآن دون خجل من ظروفها السابقة. تاريخ مضى وإنتهى. الغد أفضل من اليوم وحتماً أفضل من الأمس

.

في أسفل السلم اللولبي هناك باب يقود للسرداب. السرداب عبارة عن غرفة واحدة كبيرة بحجم الدور الأرضي دون أن تقسمها حوائط. مساحة واحدة مفتوحة دون شبابيك. لولا بعض العواميد لأصبحت تلك المساحة رائعة كملعب داخلي. لم يكن هناك إنارة فيه. يقول أبي أن الكهرباء بحاجة لبعض التصليحات. كان الجو فيه خانق بعض الشيئ كونه لم يتهوى منذ فترة. أشعة الشمس لم تدخله منذ أشهر. هواءه كزفير لم يخرج. رطب بعض الشيئ. ربما نما عفن في الظلام كما ينمو في قلوب الناس كما هي الحال في أخوالي وأقرباء والدي ... والأقرباء أولى بالمعروف وعفنهم أزكم

.

.

قرر أبي أننا سوف نستخدم الدورين الأرضي والعلوي للمعيشة والسرداب سوف يكون إستعماله في الوقت الحالي كمخزن لكل ما لسنا في حاجة له في الوقت الحاضر. بعدها يقفل الباب بالمفتاح ولن يسمح لأحد بالنزول حتى تتم التصليحات. قال هذا وهو يقفل الباب ويضع المفتاح في جيبه. كان هذا القرار موضع تندر مني كوني كنت اترقب الوقت الذي يكون السرداب واحة لعب لي ولأخوتي. قلت ذلك لأبي فلم يمانع هذا الحلم لكنه طلب مني تأجيله لمدة بسيطة لا تتعدي بضعة شهور كما قال. اقنعني بأنه يحتاج لصيانة تكلفتها غير متوفرة الآن. لا أعلم إن كان بحاجة لإقناعي أو فرض رأيه. كان يخاطبني كرجل وهذا كان له أثر طيب في نفسي لم أستطع أن أجادله بعدها. شاربي الذي مل اختفاءه تحت جلد شفتي وقرر أن يبدأ بشق طريقه للخارج كما تنمو وريقات شجر تبحث عن شمس. بدأ شاربي بعد هذا النقاش يبدوا أوضح في عقلي

.

.

لم يكن البيت قديماً. لم يكن البيت جديداً. كانت العائلة التي ملكته في السابق قد أقامت به لفترة ليست بالطويلة قبل أن يقرروا بيعه لأسباب إقتصادية كما شرح والدهم لأبي عند إتمام عملية الشراء. أو كما قال لي أبي أنهم لم يقدروا على سداد أقساط المبلغ الذي إستلفوه من البنك لشراء هذا البيت ... "عاشوا بمستوى أكبر من مستواهم". لم يكن والدي مصدقاً الحلم الذي يعيشة. لم يستوعب أن يأتي هذا اليوم الذي يجد فيه المنزل الحلم بسعر لا يمكن أن يكون واقعاً بل ربما فقط بالأحلام. كان يتندر بأن مصائب قوم عند قوم فوائد ومصائب الفقراء الذين يودون لو عاشوا كالأغنياء فوائد لمثله. نسي أبي أنه فقير كهؤلاء وكيف كان يستجدي غرفة في بيت أبيه قبل أن يطرد منها في آخر الأمر. النسيان نعمة لكن ليس في جميع الأحيان. والأنسان ليس لديه سوى التشبت بالنسيان. وأبي إنسان

.

.

رحل آخر عامل نقل بعد أن مل من التسكع هنا وهناك أملاً في إكرامية أكبر مما أنقده والدي. لم يكن نصيبة من المبلغ بالقليل لكنه كأي إنسان يطمع بأن عمله الذي أداه مقابل أجر معين متفق عليه برضاء الطرفين هو مبلغ غير كافي. ربما لم يحتسب رب العمل مكافأة العرق الإضافي الذي نزل من جسده والذي ربما له ثمن. ربما تسكعه بحجة الصلاة لم تنفعه كثيراً. دائماً هناك من يتصدى ليكون المحتسب لدى رب العمل نيابة عن الآخرين. طبعاً للمحتسب أجره بين أتباعه وأعوانه. قال لي مدرس التربية الإسلامية بأنني يجب أن أعطي الأجير أجرة قبل أن يجف عرقه. لربما أبي قد سمع نفس الجملة فحرص على دفع الأجر بسرعة كبيرة. هل ترى هو فعل ذلك فرحاً ببيته أم خوفه من علماء الدين الذين نقدس قولهم ونبديه قبل أن نرى ما تمليه علينا إنسانيتنا في المقام الأول

.

.

ما أن أغلقنا باب البيت خلف العامل حتى بدأت نسوة الحي بالتقاطر على بابنا. كان هناك قدر كبير وواسع من الفضول منهن جمعياً بلا إستثناء. كلهن كانوا يريدون معرفة أكبر كمية من المعلومات عنا وكأنهن كن في سباق محموم تفوز به من تجمع قصة حياتنا من البداية حتى اليوم. يكلمون والدتي وعيونهم ترقص في أنحاء البيت تريد معرفة خبايا غير ظاهرة. ربما كشف صندوق عما يحويه من أسرار لم ترد والدتي إشراك أحد بها. في وسط كل هذا يطلب منها أخي الأصغر شيئاً يأكله فتنهره بإبتسامة مصطنعة تتحاشى بها إظهار حقيقة مشاعرها. تطلب منها شقيقتي أن تلعب بالخارج. تقبلها بحنان مبالغ وتسمح لها بما تريد. يشير لها والدي بأنه خارج للصلاة بالمسجد القريب. تبتسم بخجل لتلك وترد على الأخرى. كانت فرحة بما تمر فيه. لم يكن لديها خبرة سابقة بالتعامل مع مواقف كتلك. وهنا ظهرت الشخصية الجديدة الأرستقراطية. الشخصية التي تم شراءها وتخزينها لهذا اليوم. يبدو أن المبلغ الذي أشترت به قناعها هذا لم يذهب هدراً. ابتسمت لعلمي بحقيقة لا تعرفها تلك النسوة. فقط كنت آمل أن تختفي تلك السيدة وتعود أمي بلا قناع بعد أن تذهب النساء لبيوتها

.

.

تختفي النساء واحدة تلو الأخرى. كما جاءوا بضجيجهم عاد الهدوء برحيلهم. سكنت ساحة المعركة مخلفة بقايا كرم حاتمي ظهر فجأة على ذوي دخل اقل ما يمكن أن يقال عنه محدود في أفضل الحالات. تلتقف عينا والدتي أخي وتقذفه بصرخة لما سبب لها من إحراج أمام الجارات برغبته التي كان لها أن تنتظر حتى خروجهن. تلتفت حولها وهي تصرخ تطالب شقيقتي بالمثول أمامها الآن لتأخذ نصيبها من الزعيق لكونها تعرف أن قانون الأسرة يمنع اللعب بالخارج. العقاب وارد في تلك اللحظة. ربما أصبح عقابها أكثر من صيحة. لا ترد شقيقتي فتطلب مني والدتي أن أناديها من الخارج. أعود لأبلغها أنها غير موجودة فربما كانت في الدور العلوي. أعود لأخبرها بعدم وجودها هناك أيضاً. يبدأ الدم بالدوران بسرعة مضاعفة في عروق والدتي. تنسى غضبها ليتحول ندائها إلى رجاء بالظهور. أكاد أسمع دقات قلبها بوضوح. تهتز الجدران من دقات قلبها التي اصبحت مسموعة بصوت عالي. أنصت لأكتشف أن ما اسمعه هي دقات قلبي . تصرخ تنادي أبي الذي لم يكن موجوداً أصلاً. تمني نفسها بأن أبنتها موجودة معه. تنزل دمعه من عينيها وهي تنهي المكالمة مع والدي. دمعتها تقول أن شقيقتي ليست معه. دموع بين صراخ. صراخ بين فزع. فزع بين خوف. خوف يعيدك لدموع. دائرة متكاملة ليس لها بداية أو نهاية. مجرد أن تبدأ لن تجد النهاية

.

صرخة تنادي اسمها دون رد. صعود ونزول للدور العلوي وكأنما نسعي بين الصفا والمروى. زوجة إبراهيم النبي تريد الماء لولدها وحيدها وأمي تريد أن تجد وحيدتها ولا تريد الماء. وتبقى النتيجة كما هي. خروج إلى الشارع يعقبه سؤال الجيران دون جدوى

.

.

في وسط كل هذا نسمع دقات على الباب الخارجي. نظرات الجميع تلتفت ناحية الباب ثم ترجع لتلتقي. صمت لأقل من ثانية يبدو كتوقف عقارب الزمن لأجل بعيد. أركض ووالدتي سوياً نحو الباب. نفتحه. خلفه كانت فتاة في عمر شقيقتي تقريباً. رثة الملابس. لا ترتدي حذاء. متسخة الوجه شعرها أجعد لم تلمسه قطرة ماء منذ زمن. وجهها أصفر باهت. شفيتيها يابسة متشققة. عينيها جاحظة بطريقة مقززة. مرعبة تلك الفتاة بما تعنيها الكلمة. رائحتها نتنة. جيفة تتحرك. نظرت لها والدتي وسألتها عن مرادها. لم ترد تلك الصغيرة. تقدمت نحو والدتي. دخلت بيني وبين أمي. أكملت طريقها للداخل. تجمدت أمي في مكانها. صرخت وهي في مكانها توقفي أيتها الصغيرة. لم يكن هناك رد. تتجه الفتاة ناحية باب السرداب تفتحه وتدخل. تقفل الباب خلفها

.

تقرر أمي أن تحمي بيتها بنفسها وسط سخط على الرجل اليافع الذي تعبت بتربيته. ترميني بنظرة قاسية كافية لإفهامي من هو هذا الرجل. إلى هذا اليوم لم أكن في نظرها سوى ولد وأصبحت رجلاً الآن

.

لم تقدر أمي أن تتحرك من مكانها حتى أختفت تلك الفتاة عن أنظارها. لم تكن الوحيدة. جمودي كان أكبر من جمود أمي. طلبت مني أمي أن أمسك تلك المتشردة. ردة فعلي أو لا ردة فعلي كانت أكبر من أن لا تلاحظ

.

ركضت ناحية السرداب خلفها. فتحت الباب. لم يفتح الباب بيدها لأنه كان مقفولاً بالمفتاح

.

"أين المفتاح" تسألني

.

"عند والدي" أجيبها وأنا غير مصدق لما يحدث أمام عيني

.

كيف فتحت الباب تلك الفتاة وهو مقفول ... بل كنت واقفاً بجانب والدي عندما أقفله بيده ووضع المفتاح في جيبه

.

من هي

.

ولماذا هي هنا

.

وأين شقيقتي
.

.

نسمع طرقاً على الباب الخارجي. تصرخ والدتي بفرحة أنها لابد أن تكون أبنتها عادت لبيتها. ننسى السرداب وتلك المشردة. ننسى كيف فتحت الباب وهو مقفل بفتاح في جيب والدي. نركض سوياً نحو الباب الخارجي. تجمد يد أمي قبل أن تصل لعروة الباب. أنظر إلى وجهها الجامد. أسمع طرقاً يأتي من ناحية السرداب. هناك من يطرق الباب من داخل السرداب

.

.

يتبع جزء ثالث ربما يكون الأخير

الأربعاء، أبريل ١٤، ٢٠١٠

أسرة من خمس أفراد - الجزء الأول

والدتي تبكي بحرقة شديدة وهي تلطم وجهها. تنظر لنا في المقعد الخلفي ثم تنتقل لأبي. تبكي بصمت وهو شئ لم أعهده بها أبداً. تقول كلمات لا تنطق بها. أصبح صوتها خواء. دمعها يختلط بلعابها الذي يترنح بين شفيتها. لعاب يختلط بدوره بسوائل تصب من أنفها. سوائل تسري من عدة أفئدة تصب على وجهها وتلتقي أسفل الحنك ليسقط قطرة قطرة على عبائتها. يتطاير رذاذ هذا كله كلما نزلت لطمة من يدها على جبينها. لطمة تلحقها لطمة أخرى على خدها. تقبض على رأسها كمن يصارع صداع يشق رأسه

.
.

أبي يقبض على المقود بقوة. يده ترتجف بعنف ظاهر لم يقدر حتى هو أقوى إنسان عرفته في حياتي أن يخفيه. يعض على شفته العليا تارة والسفلى تارة أخرى. يقاوم دموعه. دمعه تغافله فتنزل مسرعة على خده قبل أن يحبسها بين مقلتيه كسجان أهوج. يمسح دمعته بسرعة. يحاول تصنع رباط الجأش. يعدل وضع غترته المسدوله على رأسه وكتفيه. يحاول إخفاء مايمكنه إخفائة بتلك الغترة. تبقى عينيه مسمرتين أمامه فقط. يتحاشى أن ينظر لوالدتي أو أي منا. أحسه ضعيف للمرة الأولى في حياتي. البركان الثائر أبتلعه البحر فأصبح مجرد جبل صخري

.
.

أخي الأصغر تائه في محيطه الشخصي. ليس له علاقه بما يحدث حوله. ربما سنه الصغير يعذر تصرفاته. لم ينسى لعبته المفضلة رغم كل شيئ. يعبث بها ثم يتركها ليعبث بحزام الأمان لثواني قبل أن يشد إنتباهه شيئ آخر

.
.

عينا شقيقتي ملتصقتين خارج السيارة. تبتسم رغم كل شيئ. ترسم بأصبع يدها على الزجاج الخلفي وتحدث نفسها. تقول ما تقول بصوت عالي أو من غير صوت لا أدري فلست أسمع أحداً

.
.

وأنا بينهم محتار فيما أرى. أنتقل بنظري من شخص لآخر. لا أقدر أن أنبس ببنت شفة وإن قدرت أو رغبت فلا أدري ما أقول. أذناي تخونان الموقف. كطفل أبكم لم يتعنى أحد أن يعلمه لغة البكم. أراقب المشهد أمامي كفيلم سينمائي يعرض بسرعة بطيئة دون صوت. الأبطال حولي أعرفهم بشخوصهم الحقيقية. ثم فجأة تزيد سرعة الفيلم. تصل للسرعة الطبيعية. يعود الصوت فيذهب صممي. وحدها الألوان بقيت بعيدة. مازال اللون الأبيض يعانق الأسود

.
.

أكتشف أن أمي تبكي بصوت عالي

.
.

أكتشف أن أبي ينوح بصوت عالي

.
.

أكتشف أن شقيقتي تقول شيئاً بصوت عالي

.
.

أكتشف أنني الوحيد الذي لم يكن يسمع شيئاً

.
.

ما زالت أذناي تخونان الموقف. هل أقول شيئاً أم أعتبر أن السكوت من ذهب للمرة الأولى في حياتي

.
.

ترى كم مرة في حياتنا قلنا ماذا لو... كل منا له "ماذا لو" الخاصة به. مهما أختلف البشر في خلقهم سوف يجتمعون في هذه ال "ماذا لو" حتماَ

.
.

ماذا لو لم أذهب للعمل اليوم

.
.

ماذا لو أني لم اعشقها هي بالذات

.
.


ماذا لو أنني سلكت طريق آخر

.
.


ماذا لو أشتريت أو بعت السهم في ذاك اليوم

.
.


ماذا لو تعقب ماذا لو أخرى
.
.



ماذا لو أني لم اشتر هذا البيت ... آه على تلك الأخيرة التي سمعتها مرات ومرات من أبي

.
.


ألم يعلم أن لو تفتح عمل الشيطان كما قال لي مدرس الدراسات الإسلامية في مدرستي

.
.


ألم يسمع مدرسي هذا بمن ساقته أفكاره ليسأل نفسه أسئلة لا يجد إجابة لها فوجد الحل لمعضلته. وهو الأمر أو المثال الذي يسوقه المبدعون للتمهيد لمخترعات كثيرة بينما نحن نقول انها قد توصل لحافة الكفر أو شيئ من هذا القبيل كما قال لي المدرس ذاته. لا يجب أن نسأل أنفسنا أسئلة مخافة الكفر. لا عجب في أن نجد ضالتنا عند علماء الدين دون غيرهم. العلماء اللذين فقط درسوا الدين نسعى إليهم دون غيرهم لكل مشكلة تحط بين ايدينا. من الفضاء إلى الخراء كلها مسائل يتصدى لها علماء الدين بالنيابة عنا ولا عزاء للعقل

.
.


أعود لوالدي الذي لم يفتأ يذكر تلك الجملة الأثيرة بأنه لو لم يشتري بيت الأحلام لما كنا في ما نحن فيه من ألم. أبي يتصور أن عذابه ومعاناته هي بسبب قرار أتخذه ذات ليلة دون حساب أي اعتبار لجملة تبدأ بماذا لو الممنوع عنه التفكير بها حسبما قال له استاذ الدراسات الإسلامية هو أيضاً. ترى هل يريد دفن إخفاقاته بالدين! حقيقةً لا أعلم. أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد. من سار على هذا النهج ربما وجد طريق للهرب من اخفاقاته بسهولة. كل ما عليك هو أن تمرر أرادة الله التي لم تشأ. ملتزماً أم منحرفاً. متزمتاً أم متراخياً

.
.


ما أعلمه وأعرفه حق المعرفه أن والدي كان مثال الرجل الشرقي المتفتح التقليدي. يصلي الفروض دون أن يفوت أياً منها خاصة الجمعة المباركة التي يحرص على أخذي للمسجد معه. لكنه في الوقت نفسه لا يمانع كأس من النبيذ الأحمر الطيب وربما الأبيض عندما يخرج عن حدود الوطن طالما أنه لا إسراف ولا تسريف. والأهم من هذا وذاك لا عيون لشرقيون مثله. يمكنك أن تراه في سهرة منسجماً مع الطرب في وجود راقصة جميلة ناهده اليوم ثم تراه في الصباح التالي يصلي فوق سجادته التي ترافقه أينما حل. تورع وخشوع يتبع شراب ومتع. خير وشر. ليل ونهار. صدق وكذب. ابيض وأسود. سمها ما تشاء فهي في النهاية مجرد تضارب في الأفعال لإرضاء من حولك دون أن تكون صادقاً مع نفسك قبل كل شيئ

.


.
ربما وجب علي وضع بعض النقاط على الحروف. تزوج والدي منذ سنوات عشر وزادت خمس. خلالها انتقلنا ما بين العديد من المنازل المستأجرة وبيتي جدي لأمي وجدي لأبي. تعدوت على سماع والدي وهو يلقن مندوب صحف الأعلانات طلبه المتكرر. مطلوب شقة لعائلة صغيرة من ثلاث أفراد. تطورت الأمور فأصبحت عائلة من أربع أفراد. ثم أستقرت عند العدد الحالي ليصبح الإعلان : مطلوب شقة لعائلة صغيرة من خمس أفراد. حاول أن يبقي على كلمة "صغيرة" في الإعلانات لكن أصحاب العقارات لم يقبلوا هذا التصنيف لعائلة من خمس أفراد فأزالها مضطراً


.
.


طبعاً في بيوت جدودي تم الترحيب بنا في أول الأمر ثم تم طردنا في آخر الأمر، ولو أنه لم يتم إستعمال هذا المصطلح بعينه، إنما كانت تظهر فجأة الحاجة للغرفتين التين تم إعطائهما لنا. عجيب كيف تتبدل قناعات البشر في فترات قصيرة جداً. العلاقات الأسرية في بلادنا متينة جداً ... على الورق طبعاً. كانت هناك فترات قاسية مررنا بها كعائلة. لا أعتقد يمكن لأحد تصور العيش في بيت قريب وهو يرى تبدل الشعور نحوة تدريجياً حتى يصل لمرحلة الكراهية والحرب المعلنة والملاكمة بدون القفازات كما يقال. تلك أمور ولو أنها كانت قاسية ألا أنها قربت افراد عائلتي بعضنا لبعض. كنا نحس أننا كعائلة يجب أن نلتصق معاً لنضمن سلامتنا وسط ما كنا نعيش به من مؤامرات نراها تحاك لنا فراداً وجماعاً ممن كنا نعيش في كنفهم.

.
.


كان هذا الأمر صعباً على والدي عندما عشنا في بيت والده كونه كان يوضع في خانة الأختيار بينهم وبين أمي. كان يحاول التوسط كلما وضع في هذا الموقع حتى لا يجبر على الإختيار. ولم تكن تلك الخطة لتنجح كل مرة فيضطر آسفاً لإختيار جانب والده أو والدته وربما أشقائه أو شقيقاته أحياناً على حساب أمي. لم يكن والدي قوي الشخصية أمام أفراد عائلته. كان أصغرهم في مجتمع يحفر في عقلك المخفي والمعلن أن صغير القوم خادمهم. ولو كان كبيراً فيضل صغيراً. يتخذ تلك المواقف التي غالباً ما تكون ضد ما تراه أمي إلا قليلاً .. ثم يضطر بعد ذلك لجبر خاطرها وهو يتوسل بأنه لم يكن لديه حل آخر غير ما أعلنه أمامهم، وبأن الفرج قريب. هي مجرد بيعة أسهم في الوقت الصحيح سوف تذلل جميع تلك مشاكل. ينسى أن يعترف بأن خبرته في أسواق المال تماماً مثل خبرة جدتي في الأنترنت. هكذا كان يقول لأمي كلما سألته إلى متى عليها أن تصبر هذا العذاب. لم تكن أمي ترضى بسهولة كل مرة. ربما كانت لديها أيضاً أجدنتها الخاصة بها. لن أتدخل أكثر من ذلك فقط لأنني لا أريد معرفة الثمن بينهما

.
.


كان أبي يجمعنا ويقول لنا نظريته في الحياة. يقول أن الغد لابد وأن يكون أفضل من الأمس وبالتأكيد أفضل من اليوم، يدرك الأمس هذا الأمر فيعلن الحرب على اليوم والغد عن طريق زرع طريقك بالأشواك وبالمشاكل والإحباطات فقط ليزرع اليأس في قلبك ولينهكك حتى لا تكتشف أن الغد هو فعلاً أفضل .. حسب منطق أبي الغد أفضل في كل الحالات حتى لو كان أسوأ من الأمس وقبله لكنه قد لا يبدو أفضل كون الزمن يحارب غدك!! يقول أبي أن الأمس هو رب مشاكل الغد. كم وددت أن أقول له أن كلامه لا أفهمه

.
.


المضحك المبكي بالأمر أن السحر انقلب على الساحر عندما انتقلنا من بيت جدي لأبي لبيت جدي لأمي. وكأنما التاريخ يعيد نفسه تماماً. أمي أصبحت هي الوسيط وقت المشاكل وهي التي اصبح عليها الاختيار وأصبح عليها مراضاة أبي بعد الأختيار الذي كان تقريباً دوماً في غير صالحه. جدتي لم تكن تطيق والدي. كانت تتعمد إهانته بشكل علني. كنت احسه يتألم لكون الأمر يمس جوهر رجولته. أراها تتحدث عنه بطريقة بشعة أمامي وكأنما كونها جدتي يشفع لها أي أمر كان. لطالما أحسست أن عائلتي الكبيرة ليس لها أساس في قلبي. ربما ساعدت تلك الأيام على ترسيخ تلك الفكرة في رأسي. وربما تصرفات أخوالي الفجة مع أبي وما كانوا يتفوهون به أمامي عنه ساعد أكثر.

.


ثم هناك الحالات التي كان الخلاف بسيطاً لكن والدي كان يحاول تمرير الموقف على أنه خلاف كبير ينبغي أن تتم مراضاته وتجبير خاطره بشئ لم يبح به. كان الأمر مضحكاً بعض الشئ كونك تشاهد والدك وهو يتصنع الزعل في بعض الحالات لغاية في نفسه لهو أمر مضحك. خصوصاً لمن هو في سني الذي مكنني من فهم إشارات وإيحاءات والدي الجنسية لوالدتي. هم يظنون أن الأطفال لا يفقهون ما يدور حولهم وتلك المشكلة عندما أكون أنا الولد ذو الرابعة عشر ربيعاً بينهم وهم يتصرفون وكأنني لا أفهم تلك الإشارات والرموز الواضحة المعالم لي والمبهمة في قاموسهم حسبما يتصورون
.

.
أبي يبدو عليه التعب. لقد أجهد نفسه طوال اليوم ما بين نقل العفش من منزلنا السابق إلى المنزل الجديد. كان متحمساً جداً وكأن اليوم هو يوم ولادتي ... أو هكذا قال لي هو عندما سألته عن مدى فرحته اليوم. يسابق عمال النقل بنقل حاجات معهم. يرشد بالصوت والصورة للطريقة المثلى في حمل الحاجيات من أثاث وصناديق. يخاطبهم بلهجة الأب الحنون تارة وبلهجة المعلم الشديد تارة أخرى حسب ما تقتضيه الأمور. والدتي هي الأخرى تركض في كل اتجاه. ترتب هنا وتفرغ صندوق أواني هناك. منذ سنين عديدة وهي تشتري أواني ومفارش وحاجيات كثيرة ثم تقوم بتخزينها للبيت الجديد، لبيتها الذي سوف لن يشاركها فيه أحد

.

.

يتبع ... جزء ... جزئين ... حقيقة لا أدري

الأحد، مارس ٠٧، ٢٠١٠

رسائل لم ترسل - رسالة نيويورك



ملاكي




أكتب هذه وأنا في نيويورك ... تلك المدينة المثيرة الصاخبة ذات الحياة المستمرة. مدينة أشبهها بالفتاة الجميلة المثيرة المتمكنة من فن الإغواء. تبرز مفاتنها بطريقه فاحشة. لا تبالي إن كان نهديها بارزين للعلن. تتحدث بصوت عالي وترقص أمام الجميع من غير خجل. تستعمل لغة يعف اللسان عن ذكرها وتعف الأذن عن سماعها. ربما تصرفاتها تخيف الكثير من الناضجين أو من يعتقدون أنهم ناضجين. الكثير جاؤوا ولم يتمكنوا منها. نساء يحلمن بالمجد. رجال يحلمون بالثراء. لكن تلك الفتاة المثيرة الصاخبة ما أن تتقرب إليها تجدها قد فتحت ذراعيها لك. تحضنك بحنان وتهمس بأذنك كعذراء خجلى. طرية، جميلة، رقيقة. تحاورك بذكاء وتجد فيها ما تشاء من متعة ومن العمل. من الغنى ومن الفقر. من الجمال ومن القبح. لسانها يرد عليك بشتى اللهجات واللغات. أحلام أصبحت واقعاً وأخرى تهدمت تحت قدميها. في مجلسها تجد الأمريكي والعربي واليهودي والروسي والكوبي بجانب الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. تجد أن كل ما سبق وما تلى هو جزء مما هي. هذه نيويورك التي أعرفها




كنت مستلقي في فراشي والأنوار مطفأة. الساعة تقارب منتصف الليل. الثلوج تهطل بشدة في الخارج. أحدق في السقف الذي ورغم العتمة مازلت اتبين لونه الأبيض. ظهر لي وجهك الندي على السقف وكأنني أراك هنا أمامي. لم تكوني صورة جامدة بل كنت متحركة كاملة الأحاسيس. تبتسمين. تحركين خصلات من شعرك الكستنائي القصير سقطت بدون إستئذان على عينيك. تزيحيها لتظهر عينيك اللتين ترقدان أسفل سيفين. لك حركة مميزة ترفعين فيها احد السيفين مع نظرة يملئها تهكم من لاشئ. تقولين شيئاً لا أسمعه. تضعين حجابك على رأسك وترسلين لي قبله في الهواء




أتربع على سريري. ألتفت حولي علك تظهرين على حائط امامي. كعادتك معي ... تجذبيني نحوك حتى أقترب منك كما لم أقترب من قبل فقط لتختفي من أمام عيني. يمنعني كبريائي أن أسقط على ركبتي و أن أمد يدي لتأخذيها بيدك. أراك تمضين وأكاد أجزم ان هناك ابتسامة رضا على وجهك. كلما تعودت على الحياة من غيرك تظهرين ثانية فأعود مرة ثانية أتوسل اللقاء من غير كلام. لو أن علم الإرسال الحسي كان حقيقة لأصبحت من علمائه الفاشلين



لا أعلم كم مضى على حبي لك. لن أسألك نفس السؤال لأنني لا أعتقد أنك تبالين بحساب كم مضى. أراك تحتفلين بمناسبة مرور سنة على كذا وثلاث على كذا وربما ستة وهكذا تمضي المناسبات ولا أرى لي مكان بينها. أحاول أن اتصنع لك الأعذار. باتت أعذاري تتصنع لي أعذار شفقة بي



في كل علاقة حب هناك طرفان. لابد لأحدهما أن يكون كريماً جداً في إعطاء الحب بغير حدود. ولا بد للآخر أن يكون أناني جداً ليستقبل هذا الحب الطائل بغير حدود. لو كان الأثنين كريمان أو أنانيان كما تعلمنا في الفيزياء نجدهما يتنافران لأنهما متشبهان جداً. ألم تسمعي عن أن الإختلاف فضيلة. فكرت كثيراً في من انا بين الأثنين. كريم أم أناني
.
قررت في هذه العلاقة أن أكون الكريم
.
قررت في هذه العلاقة أن أكون الأناني

.

علاقات الحب بين البشر هي عبارة عن شعور متبادل أو شعور غير متبادل. متبادل حين تكون المشاعر متشابهة يبذل كل طرف ما بوسعه لتعريف الآخر بما يكنه له من حب أو عدمه (لاحظي كم أمقت إستعمال لفظ الكراهية). هناك أيضاً الحب من طرف واحد مثلما يحب طرف بينما الآخر يمقته وتلك مشكلة. وهناك أيضاً حب من طرف واحد عندما يحب طرف الآخر دون أن يبادله الآخر نفس درجة المشاعر وتلك مشكلة ... أما أنا فحبي لك عبارة عن حب من طرف آخر




ربما ليس من العدل أن أضع اللوم كله عليك. لا أعلم أن كنت قد فهمت هذا من كلامي. الحق يجب أن يقال بأنني في لحظات الخلوة مع النفس أجد الكثير من الاعذار لك. العمر، البيت، العمل، الحياة وتجاربها السخيفة كلها لها دورها في إنشغالك اليومي أو بعدك الإرادي ... وبعد هذا أطلب منك بكل أنانية مفرطة أن تكوني لي ... ربما تنطبق أغنية عبدالله الرويشد على الوضع. تلك الأغنية التي يقول فيها ... أنا ناقص حب ثاني أنجرح منه وأعاني


قبل يومين كنت في أحد المقاهي أتناول القهوة وإذا بالفتاة الجالسة بقربي تبدأ حديثاً معي. قالت لي أنني أشبه زوجها السابق الأمر الذي أصابني بداية بذعر من المقارنة. أكتشفت أنها فتاة فارسية تعيش هنا في نيويورك. فتاة في مقتبل العمر ذات جمال شرقي مميز. لازمتني يومين تناولنا خلالها غداء وعشاء وقهوة وشراب. قالت لي أنها تحب الرقص وأرادت أن آخذها لأحد المراقص. لاحت نظرة مني لمرآة بجانبي فرأيت رجل بدأ يهرم. رجل بدأ الشيب يغزو رأسه بلا هوادة. تجاعيد بدات تظهر بجانب عيني. جسدي الرياضي بدأ يذبل. جلدي لم يعد مشدوداً كما كان. وتلك المرأة الفارسية تحثني على الرقص. وجدت الأمر أكبر من طاقتي. أراها تنظر لشفتي برغبة. باحت لي بظنها أنها وجدت فارس أحلامها. رددت بأنني لست فارساً لأحلام أحد. بل أنني أكره الجياد. ولم أكن فارساً في شبابي فكيف وأنا في هذه السن. استأذنت الرحيل وسط ذهولها وأنا أردد ... أنا ناقص حب ثاني أنجرح منه وأعاني

سوف أعود الليلة إلى لندن. كوني جميلة كما أنتي دائماً



الأناني دائماً
أنا