الأربعاء، أبريل ١٤، ٢٠١٠

أسرة من خمس أفراد - الجزء الأول

والدتي تبكي بحرقة شديدة وهي تلطم وجهها. تنظر لنا في المقعد الخلفي ثم تنتقل لأبي. تبكي بصمت وهو شئ لم أعهده بها أبداً. تقول كلمات لا تنطق بها. أصبح صوتها خواء. دمعها يختلط بلعابها الذي يترنح بين شفيتها. لعاب يختلط بدوره بسوائل تصب من أنفها. سوائل تسري من عدة أفئدة تصب على وجهها وتلتقي أسفل الحنك ليسقط قطرة قطرة على عبائتها. يتطاير رذاذ هذا كله كلما نزلت لطمة من يدها على جبينها. لطمة تلحقها لطمة أخرى على خدها. تقبض على رأسها كمن يصارع صداع يشق رأسه

.
.

أبي يقبض على المقود بقوة. يده ترتجف بعنف ظاهر لم يقدر حتى هو أقوى إنسان عرفته في حياتي أن يخفيه. يعض على شفته العليا تارة والسفلى تارة أخرى. يقاوم دموعه. دمعه تغافله فتنزل مسرعة على خده قبل أن يحبسها بين مقلتيه كسجان أهوج. يمسح دمعته بسرعة. يحاول تصنع رباط الجأش. يعدل وضع غترته المسدوله على رأسه وكتفيه. يحاول إخفاء مايمكنه إخفائة بتلك الغترة. تبقى عينيه مسمرتين أمامه فقط. يتحاشى أن ينظر لوالدتي أو أي منا. أحسه ضعيف للمرة الأولى في حياتي. البركان الثائر أبتلعه البحر فأصبح مجرد جبل صخري

.
.

أخي الأصغر تائه في محيطه الشخصي. ليس له علاقه بما يحدث حوله. ربما سنه الصغير يعذر تصرفاته. لم ينسى لعبته المفضلة رغم كل شيئ. يعبث بها ثم يتركها ليعبث بحزام الأمان لثواني قبل أن يشد إنتباهه شيئ آخر

.
.

عينا شقيقتي ملتصقتين خارج السيارة. تبتسم رغم كل شيئ. ترسم بأصبع يدها على الزجاج الخلفي وتحدث نفسها. تقول ما تقول بصوت عالي أو من غير صوت لا أدري فلست أسمع أحداً

.
.

وأنا بينهم محتار فيما أرى. أنتقل بنظري من شخص لآخر. لا أقدر أن أنبس ببنت شفة وإن قدرت أو رغبت فلا أدري ما أقول. أذناي تخونان الموقف. كطفل أبكم لم يتعنى أحد أن يعلمه لغة البكم. أراقب المشهد أمامي كفيلم سينمائي يعرض بسرعة بطيئة دون صوت. الأبطال حولي أعرفهم بشخوصهم الحقيقية. ثم فجأة تزيد سرعة الفيلم. تصل للسرعة الطبيعية. يعود الصوت فيذهب صممي. وحدها الألوان بقيت بعيدة. مازال اللون الأبيض يعانق الأسود

.
.

أكتشف أن أمي تبكي بصوت عالي

.
.

أكتشف أن أبي ينوح بصوت عالي

.
.

أكتشف أن شقيقتي تقول شيئاً بصوت عالي

.
.

أكتشف أنني الوحيد الذي لم يكن يسمع شيئاً

.
.

ما زالت أذناي تخونان الموقف. هل أقول شيئاً أم أعتبر أن السكوت من ذهب للمرة الأولى في حياتي

.
.

ترى كم مرة في حياتنا قلنا ماذا لو... كل منا له "ماذا لو" الخاصة به. مهما أختلف البشر في خلقهم سوف يجتمعون في هذه ال "ماذا لو" حتماَ

.
.

ماذا لو لم أذهب للعمل اليوم

.
.

ماذا لو أني لم اعشقها هي بالذات

.
.


ماذا لو أنني سلكت طريق آخر

.
.


ماذا لو أشتريت أو بعت السهم في ذاك اليوم

.
.


ماذا لو تعقب ماذا لو أخرى
.
.



ماذا لو أني لم اشتر هذا البيت ... آه على تلك الأخيرة التي سمعتها مرات ومرات من أبي

.
.


ألم يعلم أن لو تفتح عمل الشيطان كما قال لي مدرس الدراسات الإسلامية في مدرستي

.
.


ألم يسمع مدرسي هذا بمن ساقته أفكاره ليسأل نفسه أسئلة لا يجد إجابة لها فوجد الحل لمعضلته. وهو الأمر أو المثال الذي يسوقه المبدعون للتمهيد لمخترعات كثيرة بينما نحن نقول انها قد توصل لحافة الكفر أو شيئ من هذا القبيل كما قال لي المدرس ذاته. لا يجب أن نسأل أنفسنا أسئلة مخافة الكفر. لا عجب في أن نجد ضالتنا عند علماء الدين دون غيرهم. العلماء اللذين فقط درسوا الدين نسعى إليهم دون غيرهم لكل مشكلة تحط بين ايدينا. من الفضاء إلى الخراء كلها مسائل يتصدى لها علماء الدين بالنيابة عنا ولا عزاء للعقل

.
.


أعود لوالدي الذي لم يفتأ يذكر تلك الجملة الأثيرة بأنه لو لم يشتري بيت الأحلام لما كنا في ما نحن فيه من ألم. أبي يتصور أن عذابه ومعاناته هي بسبب قرار أتخذه ذات ليلة دون حساب أي اعتبار لجملة تبدأ بماذا لو الممنوع عنه التفكير بها حسبما قال له استاذ الدراسات الإسلامية هو أيضاً. ترى هل يريد دفن إخفاقاته بالدين! حقيقةً لا أعلم. أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد. من سار على هذا النهج ربما وجد طريق للهرب من اخفاقاته بسهولة. كل ما عليك هو أن تمرر أرادة الله التي لم تشأ. ملتزماً أم منحرفاً. متزمتاً أم متراخياً

.
.


ما أعلمه وأعرفه حق المعرفه أن والدي كان مثال الرجل الشرقي المتفتح التقليدي. يصلي الفروض دون أن يفوت أياً منها خاصة الجمعة المباركة التي يحرص على أخذي للمسجد معه. لكنه في الوقت نفسه لا يمانع كأس من النبيذ الأحمر الطيب وربما الأبيض عندما يخرج عن حدود الوطن طالما أنه لا إسراف ولا تسريف. والأهم من هذا وذاك لا عيون لشرقيون مثله. يمكنك أن تراه في سهرة منسجماً مع الطرب في وجود راقصة جميلة ناهده اليوم ثم تراه في الصباح التالي يصلي فوق سجادته التي ترافقه أينما حل. تورع وخشوع يتبع شراب ومتع. خير وشر. ليل ونهار. صدق وكذب. ابيض وأسود. سمها ما تشاء فهي في النهاية مجرد تضارب في الأفعال لإرضاء من حولك دون أن تكون صادقاً مع نفسك قبل كل شيئ

.


.
ربما وجب علي وضع بعض النقاط على الحروف. تزوج والدي منذ سنوات عشر وزادت خمس. خلالها انتقلنا ما بين العديد من المنازل المستأجرة وبيتي جدي لأمي وجدي لأبي. تعدوت على سماع والدي وهو يلقن مندوب صحف الأعلانات طلبه المتكرر. مطلوب شقة لعائلة صغيرة من ثلاث أفراد. تطورت الأمور فأصبحت عائلة من أربع أفراد. ثم أستقرت عند العدد الحالي ليصبح الإعلان : مطلوب شقة لعائلة صغيرة من خمس أفراد. حاول أن يبقي على كلمة "صغيرة" في الإعلانات لكن أصحاب العقارات لم يقبلوا هذا التصنيف لعائلة من خمس أفراد فأزالها مضطراً


.
.


طبعاً في بيوت جدودي تم الترحيب بنا في أول الأمر ثم تم طردنا في آخر الأمر، ولو أنه لم يتم إستعمال هذا المصطلح بعينه، إنما كانت تظهر فجأة الحاجة للغرفتين التين تم إعطائهما لنا. عجيب كيف تتبدل قناعات البشر في فترات قصيرة جداً. العلاقات الأسرية في بلادنا متينة جداً ... على الورق طبعاً. كانت هناك فترات قاسية مررنا بها كعائلة. لا أعتقد يمكن لأحد تصور العيش في بيت قريب وهو يرى تبدل الشعور نحوة تدريجياً حتى يصل لمرحلة الكراهية والحرب المعلنة والملاكمة بدون القفازات كما يقال. تلك أمور ولو أنها كانت قاسية ألا أنها قربت افراد عائلتي بعضنا لبعض. كنا نحس أننا كعائلة يجب أن نلتصق معاً لنضمن سلامتنا وسط ما كنا نعيش به من مؤامرات نراها تحاك لنا فراداً وجماعاً ممن كنا نعيش في كنفهم.

.
.


كان هذا الأمر صعباً على والدي عندما عشنا في بيت والده كونه كان يوضع في خانة الأختيار بينهم وبين أمي. كان يحاول التوسط كلما وضع في هذا الموقع حتى لا يجبر على الإختيار. ولم تكن تلك الخطة لتنجح كل مرة فيضطر آسفاً لإختيار جانب والده أو والدته وربما أشقائه أو شقيقاته أحياناً على حساب أمي. لم يكن والدي قوي الشخصية أمام أفراد عائلته. كان أصغرهم في مجتمع يحفر في عقلك المخفي والمعلن أن صغير القوم خادمهم. ولو كان كبيراً فيضل صغيراً. يتخذ تلك المواقف التي غالباً ما تكون ضد ما تراه أمي إلا قليلاً .. ثم يضطر بعد ذلك لجبر خاطرها وهو يتوسل بأنه لم يكن لديه حل آخر غير ما أعلنه أمامهم، وبأن الفرج قريب. هي مجرد بيعة أسهم في الوقت الصحيح سوف تذلل جميع تلك مشاكل. ينسى أن يعترف بأن خبرته في أسواق المال تماماً مثل خبرة جدتي في الأنترنت. هكذا كان يقول لأمي كلما سألته إلى متى عليها أن تصبر هذا العذاب. لم تكن أمي ترضى بسهولة كل مرة. ربما كانت لديها أيضاً أجدنتها الخاصة بها. لن أتدخل أكثر من ذلك فقط لأنني لا أريد معرفة الثمن بينهما

.
.


كان أبي يجمعنا ويقول لنا نظريته في الحياة. يقول أن الغد لابد وأن يكون أفضل من الأمس وبالتأكيد أفضل من اليوم، يدرك الأمس هذا الأمر فيعلن الحرب على اليوم والغد عن طريق زرع طريقك بالأشواك وبالمشاكل والإحباطات فقط ليزرع اليأس في قلبك ولينهكك حتى لا تكتشف أن الغد هو فعلاً أفضل .. حسب منطق أبي الغد أفضل في كل الحالات حتى لو كان أسوأ من الأمس وقبله لكنه قد لا يبدو أفضل كون الزمن يحارب غدك!! يقول أبي أن الأمس هو رب مشاكل الغد. كم وددت أن أقول له أن كلامه لا أفهمه

.
.


المضحك المبكي بالأمر أن السحر انقلب على الساحر عندما انتقلنا من بيت جدي لأبي لبيت جدي لأمي. وكأنما التاريخ يعيد نفسه تماماً. أمي أصبحت هي الوسيط وقت المشاكل وهي التي اصبح عليها الاختيار وأصبح عليها مراضاة أبي بعد الأختيار الذي كان تقريباً دوماً في غير صالحه. جدتي لم تكن تطيق والدي. كانت تتعمد إهانته بشكل علني. كنت احسه يتألم لكون الأمر يمس جوهر رجولته. أراها تتحدث عنه بطريقة بشعة أمامي وكأنما كونها جدتي يشفع لها أي أمر كان. لطالما أحسست أن عائلتي الكبيرة ليس لها أساس في قلبي. ربما ساعدت تلك الأيام على ترسيخ تلك الفكرة في رأسي. وربما تصرفات أخوالي الفجة مع أبي وما كانوا يتفوهون به أمامي عنه ساعد أكثر.

.


ثم هناك الحالات التي كان الخلاف بسيطاً لكن والدي كان يحاول تمرير الموقف على أنه خلاف كبير ينبغي أن تتم مراضاته وتجبير خاطره بشئ لم يبح به. كان الأمر مضحكاً بعض الشئ كونك تشاهد والدك وهو يتصنع الزعل في بعض الحالات لغاية في نفسه لهو أمر مضحك. خصوصاً لمن هو في سني الذي مكنني من فهم إشارات وإيحاءات والدي الجنسية لوالدتي. هم يظنون أن الأطفال لا يفقهون ما يدور حولهم وتلك المشكلة عندما أكون أنا الولد ذو الرابعة عشر ربيعاً بينهم وهم يتصرفون وكأنني لا أفهم تلك الإشارات والرموز الواضحة المعالم لي والمبهمة في قاموسهم حسبما يتصورون
.

.
أبي يبدو عليه التعب. لقد أجهد نفسه طوال اليوم ما بين نقل العفش من منزلنا السابق إلى المنزل الجديد. كان متحمساً جداً وكأن اليوم هو يوم ولادتي ... أو هكذا قال لي هو عندما سألته عن مدى فرحته اليوم. يسابق عمال النقل بنقل حاجات معهم. يرشد بالصوت والصورة للطريقة المثلى في حمل الحاجيات من أثاث وصناديق. يخاطبهم بلهجة الأب الحنون تارة وبلهجة المعلم الشديد تارة أخرى حسب ما تقتضيه الأمور. والدتي هي الأخرى تركض في كل اتجاه. ترتب هنا وتفرغ صندوق أواني هناك. منذ سنين عديدة وهي تشتري أواني ومفارش وحاجيات كثيرة ثم تقوم بتخزينها للبيت الجديد، لبيتها الذي سوف لن يشاركها فيه أحد

.

.

يتبع ... جزء ... جزئين ... حقيقة لا أدري