الأربعاء، يناير ٢٣، ٢٠٠٨

طفولة تقاتل لتعيش

ترى كم من مرة صادفتنا لحظة تفكير عندما نمسك فاتورة مطعم بعد وجبة سخية غداء كانت أم عشاء فنفكر في المبلغ الذي نحن على وشك أن ندفعه. نفكر فيمن لا يجد لقمة يوم واحد


أنا عن نفسي عادة لا أفكر بتلك الأمور. أقولها صراحة ودون حرج. أنا أذهب لأفخر المطاعم لأمتع نفسي بما لذ وطاب دون أن يرف لي جفن او حتى أفكر بغيري. ليس الموضوع أنانية مني أو عدم انسانية لكنه فقط لم يخطر ذلك على بالي



بالأمس خرجت وزوجتي لتناول وجبة الفطور في أحد المقاهي المنتشرة في أحياء لندن. وجبتنا كانت عبارة عن قهوة وسندويتش لكل منا و أعتقد أن زوجتي طلبت كأساً من عصير البرتقال. عندما طلبت الفاتورة بعد الإنتهاء من الوجبة كان المجموع خمسة وعشرون جنيهاً أسترليني أو ما يقارب الخمسين دولاراً أمريكياً
.
.
قبل حوالي شهرين أو أكثر بقليل قرأت مقال في أحد الصحف الكويتية كانت قد كتبته سيدة كويتية تحدثت فيه عن زيارتها للبنان. الغريب بالأمر أنها لم تتحدث عن سعادتها بالأجواء الفرحية اللبنانية أو السهرات الجميلة على أنغام وائل كفوري أو أصالة نصري. لم تتحدث عن الإستحقاق الرئاسي أو الاعتصام وسط بيروت أو حتى الدور السوري وحركة 14 آذار. بل على العكس من ذلك تحدثت عن مأساة انسانية يعيشها بشر مثلي ومثلك. بشر نسيهم التاريخ الذي أصبح يمجد من يعيش في القصور ويرفع راية النصر بأصبعين أثنين ويترك الباقي للتاريخ ليكتبه بباقي الأصابع


تكلمت تلك المقالة عن بشر يعيشون دون أن يكون لهم عون في هذه الدنيا. بشر يعيشون دون ... لن أقول الفقر بل دون مستوى الحياة لأن من يعيش دون مستوى الفقر قد يعتبر بشراً هؤلاء يعيشون في أجواء ربما نهين البهائم إن طلبنا منها أن تعيش فيها





المقال كان كالآتي








أنت يا من تقرأ هذه السطور ولا تعرفني.. دعني أولاً أعترف لك بأني أكتب ما أكتب لعلي أستطيع بعده أن أنام، فأنا منذ وطئت قدمي مخيم برج البراجنة في ذلك اليوم من الأسبوع الفائت لم يغمض لي جفن ... تطاردني طوال الليل أقسى ملامح البؤس والشقاء .. لنبدأ من الأول



قادتني حرب تموز 2006 على لبنان إلى دروب العمل التطوعي الذي بدأ شبه منظماً حيث كنا مجموعة صغيرة قمنا حينها بتوزيع التبرعات التي جمعناها تحت مظلة الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان في قرى جنوب لبنان المتضررة من الحرب وبشكل مباشر لأيدي مستحقيها واستمر العمل التطوعي فردياً بعد ذلك حتى بات جزءاً اساسيا منى.. جزءاً عشقته حتى الإدمان

بعد عدة جولات في قرى الجنوب وعلى مدى شهور تهيأ لي أني شاهدت من لبنان قمة بؤسه وأني تعرفت عن قرب على وجهه الحزين وذلك حتى أقترح علي بعض الأصدقاء في لبنان أن أغير وجهتي في هذه الرحلة (وقد كانت رحلة توزيع مبالغ زكاة عهدت إلي من بعض الأهل والأصدقاء خلال الشهر الفضيل) إلى بعض المخيمات الفلسطينية في لبنان، ترددت بداءة وتوجست من الأمر بسبب ما اسمعه عن الأوضاع الأمنية الدقيقة في المخيمات حتى طمأنوني أننا لن نتوجه إلى أي من المخيمات ذات التواجد المسلح وإنما سنقصر زياراتنا على مخيم برج البراجنة ومخيمي صبرا وشاتيلا.. وما أدراك ما برج البراجنة وما صبرا وشاتيلا

كنت قد شاهدت من قبل عدة تقارير متلفزة عن الأوضاع في المخيمات إلا أنه لم يدر بخيالي أبداً أن الأوضاع قد تكون مثلما شاهدت بأم عيني .. دهاليز ضيقة بين المباني السكنية لا يرى فيها النور ولا تسمح بمرور شخصين متجاورين، مياه المجاري تجري بين رجليك تزكم الأنوف روائحها النتنة ... تدخل البيوت أو ما يسمى مجازاً بالبيوت وهي أقرب منها إلى القبور وإذا برطوبة عفنة تلفح وجهك وتصيبك فجأة بالغثيان ولولا الحرص على كرامة ساكنيها كنت غطيت بيدك على أنفك خوفاً من أن تتقيأ.. بيوت تملأ أرضياتها المياه في عز الصيف .. بيوت مساحتها لا تتجاوز متر ونصف في خمسة أمتار تقطنها أسراً كاملة من أناث وذكور يتشاركون في دورة مياه ليس لها حتى باب ... أية كرامة في حياة منزوعة الإنسانية

مشيت ساعات طويلة في أزقة برج البراجنة وحواري صبرا وطرق شاتيلا ودخلت ما يقارب الثلاثون بيتاً لم يكن بينها واحداً صالحاً للسكن الآدمي .. شاهدت مئات العيون الشقية.. تبحث عن لقمة .. عن دواء .. عن أجر فحص طبي أصبح مسألة حياة أو موت .. عن قيمة قسط مدرسي لطفل أو اثنين أو سبعة .. شاهدت شعباً نسيهم العالم المتمدن .. وأية مدنية تلك التي تسمح بوجود كل ذاك الظلم بيننا ولا نحرك ساكناً ؟ .. أية مدنية تلك التي نحرت أنسانية مئات الآلاف من البشر على مذابح الشعارات ؟ .. تارة لمنع التوطين .. وتارة لإرساء حق العودة .. ولكن حتى يعودوا أما يحق لهم أن يأكلوا ويشربوا ؟ .. أن يتعلموا ويتطببوا ؟ .. مرفوعي الرأس دون ذل .. ودون مصادرة لإنسانيتهم .. أما يحق لهم أن يحيوا كسائر البشر وحسب ؟؟

أيها المحسنون في بلادي ويعلم الله كم أنت كثر ... هناك في المخيمات الفلسطينية في لبنان .. في صبرا وفي شاتيلا .. وفي برج البراجنة .. هناك بشرٌ مثلكم .. عربُ مثلكم .. مسلمون مثلكم .. يئنون .. يتجرعون القهر كل يوم ..يبصرون نعيمكم وفقرهم .. قصوركم وقبورهم .. بذخكم وعسرهم .. هناك بشرُ كل فجر هو لهم همُ جديد

ليكن جهدنا بقدر شهامتنا خالصاً .. لا يحسب للسياسة حساباً ولا يضع للطائفية اعتباراً .. ليكن تحركنا مؤسسياً .. كبيراً مثلنا .. بل ضخماً .. ولكن حتى ذلك الحين سأقول لديالا أن تشمع الكبد سيقضي عليك يا صغيرتي قبل أن نتحرك .. وأنت يا آية .. ها نحن نقف مكتوفي الأيدي ننتظر بتر رجلك حتى نتحرك .. وأنت يا محمد فعما أحكي لهم؟ عن السرطان الذي تفشى في كبدك أو عن القيروس الوبائي الذي نخره وأنت لا تملك ثمن علاجاً كيميائياً قد يحفظ حياتك ويجنب جميلة وحمزة وأحمد والطفل الذي سيرى النور بعد أيام ويلات اليتم ... أما أنت يا ألفت البريئة .. ذات الإبتسامة الملائكية ..يعني ألا تكفيك نصف كلية !!! هذه هي الحياة يا ألفت يا صغيرتي .. من قال لك أنها عادلة

اللهم أني بلغت ... اللهم فاشهد
أتراني سأغمض عيني الليلة ؟؟





انتهت المقالة


.


.


منذ أن قرأت مقال تلك السيدة وأنا افكر في هؤلاء البشر. أفكر في هؤلاء الأطفال. بشر كل جريمتهم أنهم ينتمون إلى الشعب الذي يريد التاريخ أن ينتقم منه لا لشئ


لا يهمني السياسيين


لا يهمني الكبار


لا يهمني علماء الدين
.
لا يهمني جنرالات الجيش
.
لا يهمني زعماء المقاومة
.
لا يهمني أحد


يهمني فقط الطفل وسط تلك المعادلة الصعبة
.
هل من الممكن تخيل ما يحسه هذا الطفل الذي وُلد ليجد نفسه في في وضع لا يمكن أن يضمن له كبير العائلة وجبة واحدة باليوم عندما يحس بالجوع ... والصغير لم يخلقه الرب ليحتمل الجوع كالكبير ... مثلي ومثلك


لا يضمن له الكبير الدواء عندما يمرض ... والصغير كما الكبير لا يمكنه تحمل الألم


.


هذا الصغير لم يطلب تعليم عالي وهو حق له


لا يطلب تعليم بسيط وهو حق له


لا يطلب أن يحاور أحد حول الديمقراطية وأهدافها وهل هي ضد الاسلام أم الشورى هي الحل وهو حق له


هذا الصغير لا يطلب بنفس النعيم الذي نعيش به أنا وأنت كل يوم
أكاد أسمع همسات ترد علي بأنها هي لا تعيش بنعيم
.
هذا الطفل نعيمة وجبة واحدة باليوم. هذا الطفل نعيمة دواء يحتاجه اليوم اليوم قبل الغد ... وربما يحتاجه منذ الأمس


.


عندما أتت الفاتورة لي ولزوجتي قررنا أن الخدمة كانت أكثر من مرضية وعليه فإن الاكرامية لابد وأن تكون على مستوى الرضى. لذلك كانت تعادل 25% من قيمة الفاتورة. أعرف أنني كما الجميع يحب أن يترك أكرامية سخية. وهكذا بدون تخطيط أو مجهود بعد وجبة فطور واحدة دفعت ثلاثون جنيهاً استرليني أو ما يقارب 60 دولار أمريكي


.


.


ترددت كثيراً في الأتصال بتلك السيدة بعد قراءة المقال. فأنا أعيش في بريطانيا وهي تعيش في الكويت والأطفال فلسطينيون يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان. كيف أشرح أن مقال نُشر في عامود في صحيفة قبل أكثر من شهرين جعلني أعيد النظر في الحياة. هل هذا ممكن ان يصدق؟ أصدقكم القول بأنني لا أدري فلم أمر بمثل هذا الشعور من قبل. ثم الأهم من هذا هو أنني أصلاً لست بالرجل الثري. بل أعمل جاهداً منذ الصباح الباكر وحتى بعد مغيب الشمس مقابل ما اعتبره لا يفي بطموحي فكيف لي أن أشرك معي أحداً! ثم كيف لي أن أعرف أن تلك المساعدات لن تذهب إلا لمن يستحقها


.


.


ليتني لم أتصل ... ربما كان علي أن أتجاهل ما كانت تلح به علي أنسانيتي أن أقوم به. أكتشفت كم هو ضحل تفكيري. كم هو بسيط عقلي عندما يصور لي أن الحياة جميلة وكاملة مادمت أنا وأطفالي بخير. ياإلهي كم أنا ساذج. وكم هي كبيرة تلك السيدة التي تجمع تبرعات وصدقات وأموال زكاة وتترك بيتها وعيالها لتضع بنفسها تلك الأموال بيد من يستحقها


حكت لي عن بيوت شيدت ووجبات وزعت واموال وُصلت في جميع أنحاء لبنان ... للجميع دون النظر لمذهب أو أنتماء أو جنسية. مسلم مسيحي شيعي سني درزي ماروني يقدس جنبلاط ، ابو عمار ، الحريري ، نصرالله أو عون
سألت سؤال كان الغرب قد حاول لسنين عديدة أن يغسل مخي منه دون فائدة ... سألت إن كان هناك توصيف معين لمستحق تلك المساعدات؟ يبدو أنها أذكى مما تصورت فقد ردت بحزم ودون تردد قائلة بأن هناك فعلاً توصيف واحد لا غير وهو أن يكون متلقي المساعدة بشر فقط


.


سألتها بكم ممكن ان اساعد طفل مريض
.

قلتها وأنا أفكر في حسابي البنكي


قالت 50 دولار أمريكي بالشهر تفي بحاجة طفل يكاد يموت لعدم توفر المال لشراء الدواء



لكنني للتو دفعت أكثر من هذا المبلغ لتناول وجبة أفطار واحدة


.


ألم أقل أنني شعرت بأني ساذج بعد تلك المكالمة


.


.


.


من لديه القدره ويرغب بالتبرع بقيمة ما يدفعه لوجبة فطور أو غداء بما يعادل 50 دولار أمريكي أو حوالي 15 دينار كويتي تكفي لشراء دواء يحتاجه طفل مريض لمدة شهر كامل ارسال إيميل لي وسوف أزوده بطريقة الوصول لتلك السيدة