كتبت هذه السطور في مقهى في أحد المتاجر في وسط العاصمة البريطانية عندما جلست مقابل شاب وفتاة غارقين في الحب فلم أستطع أن أقاوم الكتابة
.
.
حبيبي
.
أجلس هنا في زاويتنا المفضلة على نفس الطاولة التي كنا نجلس عليها يوم الجمعة في كل أسبوع من الساعة الثانية عشرة حتى الواحدة والنصف. لم أكن أعرف أنني سوف اكتب لك شيئاً حتى رأيت الشاب والفتاة الذين يجلسون بقربي قد بدأوا بقبلات وضحكات أثارت مواجع فوق مواجعي التي أحس بها وأنا أجلس هنا بدونك. لا أدري لماذ رأيت نفسي ورأيتك فيهما. هو جميل للغاية وهي كذلك. يجلسان متقابلين وهو يمسك يدها وكأن العالم قد توقف حولهما ولم يبقى فيه غيرها في عينيه. يدع أصابعه تسري خلال شعرها الكستنائي وهو يتمتم بكلمات لا أسمعها بأَذني لكني أسمعها بقلبي. وهي تنصت لما يقول ولا اجد غير نظرات حب تخرج من عينيها له
.
تصور أنني لم أحضر إلى هذا المكان منذ ثلاث سنوات ونصف منذ أن فارقتني، ومع هذا ما إن دخلت حتى هب لي المدير مرحباً. لقد أصر أن يشتري لي القهوة على حسابه ورغم رفضي لم يسمع ما أقول وعلى الرغم من تقديري لما فعل أحس بانه كالجميع يفعلون ما يريدون لي دون أن يكون هناك مكان لما أريد أنا. سأل عنك وهو يحضّر قهوتك البيضاء ،كما تحبها دائماً ،فأعلمته أنك لن تأتي اليوم ... ولا غداً ... ولا أبداً
.
لم أقصد أن أجلس هنا في المقهى في هذه الساعة بالذات، بل جئت إلى هذا السوق لأتسلى قليلاً ثم أتناول القهوة فيما بعد. الغريب أن قدماي قادتني نحو الزاوية تماماً عندما دقت الساعة لتعلن قدوم الثانية عشر منها. وعندما جلست لم أقدر أن أحبس دمعتي فجريت إلى ركن القرطاسية وأشتريت كراس وقلم لأكتب لك هذه السطور. أعلم أنك لن تقرأها لذا سوف أمزقها بعد أن انتهي منها وأرميها في الهواء فوق النهر فلربما قرأها النهر وعرف كم أحبك
.
كل يوم يمر علي لا يخلو من دمعة عليك. لست أدري هل ألوم نفسي في موتك أم ألوم القدر الذي لم يمهلك أن تعيش حياتك كما كنت ترغب. ترى هل هو خطئي عندما لم أتأكد من قفل الباب مثلما كنت أفعل كل يوم أم هو قدري أن أراك تلفظ أنفاسك بين يدي. ترى هل سلمتك بيدي لقاتلك دون أن أدري. هل تعرف أنني لم ألحظ يوماً زهرة منذ أن تركني! تريد أن أخبرك بما يجول بخاطري؟ أنا لم أعد أفرق بين ربيع وخريف فكل أيامي أصبحت شتاء بارد جاف بغيرك. أصبحت لا أرى الحياة ولا حياة تراني. أصبحت كالعشب الميت الذي ينتظر المطر ليحيا وإن أتاه المطر إكتشف أنه ميت في الجذور فلن يكفيه المطر بعد الآن فقد فات الأوان
.
لازلت أفكر كيف جئنا إلى لندن قبل سنوات ست لنبدأ مسيرة كفاح ومليون خطوة كما أسميتها. كنت تقول دائماً أننا سوف نعيش هنا أجمل سنوات عمرنا بل وعدتني بذلك ولعمري فقد أوفيت حتى رحلت. وفيت بعهد قطعته بنفسك على نفسك فكنت لي الحبيب والصديق والأخ والأب والأم وحياتي وكل نفس نفسي. أعرف أنك تعرف ذلك لكني بحاجة أن أبوح لك مرة أخيرة بما أحسه داخل نفسي نحوك
.
هل تعرف أنني رسمتك لوحة؟ نعم فعلت ورب الكعبة
رسمتك بريشتي التي لم أعرف أنني أملكها وعندما إكتشفتها لم أعرف كيف أستخدمها حتى بدأت برسمك
رسمتك مركب جميل ذو شراع كبير يملؤه الريح وهو يقطع البحر الهادر وسط سماء زرقاء تتخللها سحب بيضاء وطيور تطير حول شراع المركب ربما تريد أن تهتدي بهداه أو تدله على مرسى
رسمتك وأنا أشعر أنك المركب الجميل الذي لا تهزه ريح ولا موج عن بلوغ مراده
رسمتك شراع عظيم يملؤه الريح القوي فيتماسك رغم كل شيئ ليقود المركب لبر الأمان
رسمتك موج هادر كما أنت دائماً تخاف علي من همس الريح
رسمتك سحاب أبيض كما هي روحك
رسمتك طائر يطير حول المركب وحولي كل يوم في كل ساعة في حياتي أنت طائر تطير أمامي أراك في كل مكان فأبتسم لك دون أي شعور مني
لو تعرف كيف أنظر لك في لوحتك التي أسميتها حياتي كما رسمتك. كنت سحابي وريحي وشراعي وطيري وموجي وسفينة نجاتي، وهل لي أن أرسمك بغير ذلك؟
ربما تقول لي نعم. لكني لا أعرف أن أرسمك بغير ما كنت تمثل لي في حياتي. وكنت تمثل لي كل شيئ في هذه الدنيا. أين انت يا مرساتي
.
هل تعرف أنني ذهبت لمقر عملك اليوم؟ هذه المرة الأولى التي أزور فيها منطقة عملك في حي المال. لا أدري لماذا ذهبت هناك ربما قادتني قدماي وربما قادتني روحي هناك. وقفت خارج المبنى أراقب الداخل والخارج علك تظهر لي فجأة من هذا الباب. كنت أعرف أنك لن تخرج لكن قلبي كان يحن إلى رؤياك بشدة. وقفت ساعتين في نفس المكان أنظر للباب وكلما لمحت شخصاً له معالم رسمك قفزت رافعة يدي ألوح بها كالمجنونة حتى أتقين أنه ليس أنت فأعود لمكاني خائبة الرجى وألهم نفسي صبراً علك تكون الشخص التالي الذي يظهر من وراء الباب
.
عبرت الشارع الى كثيدرائية القديس بول وجلست على أحد الكراسي الخشبية مقابل مبناك أنظر إليه وأحس بك تطير حولي. الجو بارد ولم أحضر معطفي معي ليقيني هذا البرد. لم أحسب أن الجو بارد هكذا فلم أرتدي سوى كنزة شتوية دون معطف والنسيم البارد يعصف بي قليلاً من كل جنب. أحس بك قربي أكثر. أحس بجناحيك من خلفي تلمني بهما وتفردهما لتغطيني بريشها الأبيض. أشعر بالدفئ حولك كما أحسسته دائماً وأنا بقربك. أُسند رأسي للخلف وأضعه على كتفك وأحس بك تضع رأسك على كتفي الآخر وبأنفاسك على رقبتي. كم أحس بالأمان الآن وأنا بين يديك. أهمس لك أن احبك في أذنك وتهمس لي بأنك لن تنساني أبدا. أقبّل خدك وأمسح دمعة عليه بللتها بعطرك. أمسك يدك واضعها على جبيني وأنزل بها إلى خدي ثم أقبّلها قبل أن أضعها على قلبي لتحس بنفسك كم يخفق هو لفقدك. ثم أحس بك ترفع يدك لتمسح دمعتي التي نزلت دون ان ادري وتقبّل أصابعك المببلة بدمعي كما تفعل دائماً عندما تريد أن تعلمني بمدى غلاة دمعي عندك. لماذا أنت هكذا؟ لماذا أحببتني لتلك الدرجة التي لا أستطيع أن لا أحبك بمثلها؟
.
تلتفت لي العجوز الجالسة على الكرسي بقربي وتبتسم قائلة: هل هو معك الآن؟ وكأنما تعرف ما أمر به. إبتسمت وقلت نعم وربي هو الآن هنا بجناحيه يدفيني. قالت أنها تشعر بك أيضاً ... هكذا أنت دائماً تحرص على إرضاء الجميع على حساب نفسك. أضحكتني تلك العجوز عندما طلبت مني أن أبلغك برسالة لتوصلها لزوجها الذي حسبما قالت لم يزرها ولو مرة واحدة ... لن أقول لك الرسالة لأنها مليئة بالسباب
.
قررت أن أمشي على خطاك فتوجهت ناحية الجسر الألفية الذي لطالما عبرته لتصل لمتحف الفنون الحديثة في الضفة الأخرى من النهر. وقفت على الجسر في وسطه تماماً مثلما كنت تفعل كل يوم كما كنت تقول لي. نظرت إلى المراكب النهرية وهي تعبر أسفل الجسر وبها الأطفال والسياح الجميع يضحك محتفياً بمن معه .. إلا أنا لم يبقى لي أحد أحتفي به من بعدك
.
قبل فترة كنت أعبث بأغراضك الشخصية أبحث عن شيئ جديد لم أعرفه عنك وأنا التي كنت أدعي أنني أعلم كل صغيرة وكبيرة عنك. هل تعلم مدى دهشتي عندما إكتشفت أنك كنت تكتب القصص! لم تعلمني بذلك أبداً. كم غريب أنت في قصصك ومواضيعك المنفرة. أجزم أن قلة قليلة تحب ما تسطر. هل تعلم ماذا فعلت؟ طبعت ما كتبته على أوراق وظللت أشرب قهوتي وأنا أقرأ لك. أضحك على جنونك وأبتسم لأنني شعرت بأنك تكتب وتفكر بي وبقرائك. لذا شعرت بأن علي أن أستلذ بما تكتب ولو كان على حساب ثلاث ساعات متواصلة من عمري ... ربما كان هذا مبرراً لهروبي من حياتي. قرأت ما كتبت وأنا أستمع لأغنية ،لا أعرف من يغنيها، لكن تقول في كلماتها أنت عالبال يا عيوني. ولم ألحظ إلا ودموعي تسيل من كل مكان. آه لو كنت أستطيع أن أفديك عيوني لما ترددت
.
.
ربما تعرفني أكثر من اللازم وتعرف أن وجودي هنا له مغزى. لقد خطبني صديق شقيقي منذ سنتين ورفضت. لم أرضى أن يحل أحد محلك في قلبي فأنت دائماً سوف تبقى الوحيد فيه. وكرر خطبته أكثر من مرة حتى ألح علي جميع من حولي أن أقبل به. بل أصر شقيقي أن أقابله قبل أن أرفضه. ففعلت فقط حتى يتركني وشأني. لا تعلم كم هي الحياة صعبة من بعدك. لا أحد يحتمل أرملة شابة في بيته حتى وإن كان من لحمك ودمك. بل جل وقته يريد أن يزوجها لأول قادم حتى يرتاح من مسؤوليتها على الرغم من أنني لم أطلب أن أكون مسؤولية أحد بل كل ما طلبته أن أعيش على ... الهامش ... لا أكثر
.
قابلته في نهاية الأمر وقلت له كلاماً كثيراً كان أغلبه عنك. وكأني أراك تضحك من خلال السحاب الآن. تعرف أنني دائمة الحديث عنك أينما كنت ولم يختلف الأمر هذه المرة. قلت له أنك الوحيد الذي في قلبي وأنك حبي الأول وأصدقك القول لم أقل الأخير لأنني أحسست بدمعته في عينه تجاهد للبقاء هناك. كان متفهماً جداً لم يطلب شيئاً. بل على العكس قال أنه لم يتوقع أن أكون قد نسيتك بهذه السرعة ولو كنت لولى الأدبار كوني لا أحفظ العشرة كما قال. أنه إنسان طيب كنت أحببته لو عرفته. بل أجزم أنك لو كنت تريد أن تصونني مع أحد من بعدك لما ذهبت بعيداً عنه في إختيارك
.
هو الآن زوجي ... لكنه زوجي على الورق حتى الآن ...طلبت منه أن نقضي بضع أيام هنا في لندن. أسماها الجميع حولنا شهر عسل بينما أتفقنا أنها أيام للراحة فقد قلت له أنني بحاجة لزيارتك هنا. لم يمانع فهو يعلم مدى حاجتي للبوح لك بما يجيش في نفسي قبل أن أمضي في حياتي. أعلم أنك مدفون في بلادنا لكني أشك أنك تركت هذه البلاد فأنا أعلم علم اليقين مدى حبك لها. أليس كذلك! أنا هنا فقط لأسألك الرضى عني فأنا مازلت لعشرتك صائنه لكني أريد منك أن تبارك لي خطوتي التي لم ولن أخطيها قبل أن ترضى بها. ربما اكتب لك ما أكتب كي أقول لك ما يدور في خلدي وأريدك أن تعرف أنه مهما حدث فلن تكون غير الاول في قلبي إلى أن نلتقي يوماً فتلمني بجناحيك مثلما فعلت من قبل فأشم فيك العبير الذي ابتغيه ولا أبتغي غيره. أحببتك يوم إلتقينا ويوم تعرافنا ويوم زواجنا ويوم فراقنا وسأحبك حتى ... أبعث حيا ... فنعود كما كنا روحين في جسد فتمسك يدي وتسري أصابعك في شعري وتهمس لي كلمات أسمعها بأذني وقلبي وليتوقف الزمن عندها كما يشاء
.
أحبك
.
.
.
.
ملاحظة: لقد تعمدت عدم ترك مجال للتعليقات
كل ما أتمناه أن يستمتع القليل منكم بما سطرت ولا أتمنى أكثر من ذلك